المنهج الجدلي
أ – صفاته
تنظر الجدلية إلى الأشياء والمعاني في ترابطها بعضها بالبعض وما يقوم بينها من علاقة متبادلة، وتأثير كل منها في الآخر. وما ينتج عن ذلك من تغيير كما تنظر إليها عند ولادتها ونموها وانحطاطها[1].
وهكذا تتعارض الجدلية في كل ناحية مع الميتافيزيقا. وليس ذلك لأن الجدلية لا تقبل أي سكون أو فصل بين مختلف جوانب الواقع بل هي ترى في السكون جانبا نسبيا من الواقع. بينما الحركة مطلقة. وهي تعتبر أيضاً أن كل فصل أو تمييز هو نسبي لأن كل شيء يحدث في الواقع بطريقة أو أخرى. وأن كل شيء يؤثر في الآخر.
وهكذا لما كانت الجدلية تهتم بالحركة في كل أشكالها وليس فقط بالتغيير المكاني بل بتغييرات الحالات كتحول الماء السائل إلى بخار فإنها تفسر الحركة عن طريق نضال الأضداد. ذلك أهم قانون في الجدلية، وسوف نخصص له الدرس الخامس والسادس والسابع.
يقوم الميتافيزيقي بعزل الأضداد بعضها عن بعض، وينظر إليها على أنها متنافرة بصورة منظمة. أما الجدلي فهو يكتشف بأنه لا يمكن أن يوجد بعضها دون البعض، وأن كل حركة وكل تحول إنما يفسره ما ينشأ بينها من نضال. ولقد أشرنا، في المسألة الثانية من هذا الدرس، إلى أن حياة الجسد هي نتيجة نضال مستمر بين قوى الحياة وقوى الموت، وأنها انتصار تنتزعه الحياة من براثن الموت.
إذ أن كل كائن عضوي هو في كل لحظة، ذاته وليس بذاته، فهو، في كل لحظة. يتمثل مواد غريبة ويفرز مواد أخرى، تموت في كل لحظة، خلايا من جسده بينما تتكون أخرى. فإذا بماهية هذا الجسد تتجدد في مدة قصيرة، وقد حل محلها ذرات مادية أخرى، بمعنى أن كل كائن عضوي هو دائما ذاته وليس بذاته.
حتى إذا ما تأملنا الأشياء جيدا وجدنا أن قطبي التناقض لا يمكن الفصل بينهما بالرغم من تناقضهما، وأن كلا منهما يتداخل في الآخر، وهكذا فأن السبب والنتيجة هما تصوران لا قيمة لهما ألا إذا طبقناهما على حالة معينة، حتى إذا ما اعتبرنا هذه الحالة المعينة في علاقتها بمجموع العالم انحلا في نظرتنا إلى التفاعل الشامل المتبادل حيث تتبدل الأسباب والنتائج باستمرار فيصبح ما كان نتيجة هنا سببا هناك وهكذا دواليك[2] .
وهكذا شأن المجتمع أيضا. وسنرى بأن نضال الأضداد يظهر في المجتمع في صورة نضال الطبقات. كما أن نضال الأضداد يثير الفكر3.)
ب– تكوينه التاريخي
يعود الفضل إلى الفلاسفة اليونان في البدء بتكوين الجدلية. فقد تصوروا الطبيعة ككل. وكان هر قليط يعلم الناس أن هذا الكل يتحول، فكان يقول لا ندخل قط في نفس النهر مرتين. كما يحتل نضال الأضداد عندهم مكانة كبيرة ولا سيما عند أفلاطون الذي يشير إلى خصب هذا النضال، إذ أن الأضداد يولد كل منها الآخر[3]. وكلمة 'الجدلية' مشتقة من الكلمة اليونانية 'dia legein' وتعني 'جادل' فهي تعبر عن صراع الأفكار المتناقضة.
ونجد عند أكبر مفكري العصر الحديث ولا سيما عند ديكارت وسبينورزا أمثلة رائعة على التفكير الجدلي. أعجب هيجل بالثورة البرجوازية التي أتنصرت في فرنسا وقضت على المجتمع الإقطاعي الذي خيل إليه أنه أبدي لا يزول، فإذا بهيجل يقوم بثورة مماثلة في الأفكار. فينزل الميتافيزيقا وحقائقها الخالدة عن عرشها السامي، وإذا بالحقيقة، عنده، ليست مجموعة من المبادىء الجاهزة، بل هي عملية تاريخية، تبدأ بالمعرفة البدائية لتنتهي بالمعرفة السامية. وهي تتبع في ذلك حركة العلم نفسه الذي لا يتطور إلا إذا عمد إلى نقد نتائجه باستمرار، وتجاوز هذه النتائج. وهكذا نرى أن الدافع لكل تحول هو نضال الأضداد.
ومع ذلك كان هيجل مثاليا، أي أن طبيعة التاريخ الإنساني، بالنسبة إليه لم تكن سوى تجلي الفكرة الأزلية وهكذا تظل جدلية هيجل جدلية روحية صرفة.
ولقد رأى ماركس، وكان زميلاً لهيجل في أول الأمر، في الجدلية المنهج العلمي الوحيد. غير أنه عرف أيضاً، كمادي، أن يعيد الجدلية إلى مكانها الحقيقي. فرفض القول بالنظرة المثالية للعالم التي ترى في الكون المادي ثمرة للفكرة، وأدرك أن قوانين الجدلية هي قوانين العالم المادي، وأنه إذا كان الفكر جدليا فلأن الناس ليسوا غرباء في هذا العالم بل هم جزء منه.
كتب انجلز، وهو صديق ماركس ومساعده، يقول: 'ليست الجدلية، عند هيجل ـ التي تتجلى في الطبيعة والتاريخ في صورة ترابط التقدم السببي الذي نجده منذ البداية حتى النهاية خلال جميع الحركات المتعرجة الالتواءات الموقتة ـ ليست هذه الجدلية سوى صورة لحركة الفكرة الذاتية التي تستمر منذ الأزل حيث لا ندري مستقلة عن كل ذهن إنساني مفكر. فكان لا بد من تجنب هذا الانقلاب الفكري فنظرنا إلى أفكار الذهن نظرة مادية على أنها انعكاس للأشياء بدلا من أن ننظر إلى الأشياء على أنها انعكاس لدرجة معينة من درجات الفكرة المطلقة وهكذا أصبحت الجدلية معرفة قوانين الحركة العامة في العالم الخارجي أم في التفكير الإنساني. وهما طائفتان من القوانين المتماثلة في الأصل المختلفة في الشكل بمعنى أن الذهن الإنساني يمكن أن يطبقها عن وعي وإدراك بينما هي لا تطبق في الطبيعة أو التاريخ الإنساني الا بصورة غير واعية في شكل الضرورة الخارجية وسط العديد من الصدف الظاهرة. فإذا بجدلية الفكر ليست سوى انعكاس بسيط واع لحركة العالم الحقيقي الجدلية. وإذا بجدلية هيجل ترفع رأسها فتقف على رجليها بعد أن كانت تقف على رأسها[4]
رفض ماركس أذن القشور المثالية في فلسفة هيجل واحتفظ 'باللباب العقلي' أي احتفظ بالجدلية. وهو يقول ذلك بنفسه بوضوح في المقدمة الثانية 'لرأس المال' (كانون الثاني 1873).
لا يختلف منهجي الجدلي في الأساس عن منهج هيجل فقط، بل هو نقيضه تماما. إذ يعتقد هيجل أن حركة الفكر التي يجسدها باسم الفكرة هي مبدعة الواقع الذي ليس هو سوى الصورة الظاهرية للفكرة. أما أنا فاعتقد. على العكس، أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى ذهن الإنسان[5]' .
كيف وصل ماركس وانجلز إلى هذا الانقلاب الخطير؟ نجد الجواب على ذلك في مؤلفاتهما. إذ أن ازدهار علوم الطبيعة في القرن الثامن عشر. وفي السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، هو الذي أدى بهما إلى القول بأن للجدلية أساسا موضوعياً.
وكان للاكتشافات الثلاثة التالية أثر كبير في ذلك.
1) اكتشاف الخلية الحية التي تتطور عنها الأجسام المعقدة.
2) اكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيمائية، الخ. في صور مختلفة نوعيا لحقيقة مادية واحدة.
3) نظرية التحول عند داروين. فلقد أظهرت هذا النظرية اعتمادا على علم الحفريات (paleontologie) وعلم تربية الحيوان، أن جميع الكائنات الحية (ومنها الإنسان) هي ثمرات التطور الطبيعي ( داروين أصل الأنواع، 1859 )
ولقد أوضحت هذه الاكتشافات، كما أوضحت جميع العلوم في ذلك العصر (كفرضية كانت ولا بلاس التي تفسر النظام الشمسي بأنه قد تولد من (nebuleuse) أو نشوء علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) الذي يعيد بناء تاريخ الكرة الأرضية، الطابع الجدلي في الطبيعة على أنها وحدة لكل شاسع. في صيرورة دائمة. يتطور حسب قوانين ضرورية ولا يكف عن توليد المظاهر الجديدة وما النوع الإنساني والمجتمع سوى لحظة من هذه الصيرورة الشاملة.
انتهى ماركس وانجلز إلى القول بأنه يجب الاستغناء عن المنهج الميتافيزيقي لفهم هذه الحقيقة الجدلية، ذلك المنهج الذي يقضي على وحدة العالم ويجمد حركته. فكان لا بد من منهج جدلي، وقد أعاد هيجل الاعتبار إلى هذا المنهج ولكن لم يستطيع اكتشاف الأسس الموضوعية له.
لم يأت، إذن، ماركس وانجلز بالمنهج الجدلي من الخارج بصورة اعتباطية، بل استقياه من العلوم نفسها التي تتخذ الطبيعة موضوعا لها والطبيعة جدلية في ذاتها[6].
ولهذا ظل كل من ماركس وانجلز، طيلة حياتهما: على اتصال دائم بتقدم العلوم وقد ازداد المنهج الجدلي في دقته كلما ازدادت معرفة العالم اتساعا وعمقا: كرس انجلز، بالاتفاق مع ماركس (الذي ألف رأس المال) سنوات طويلة لدراسة الفلسفة وعلوم الطبيعة دراسة دقيقة كما كتب عامي 1877 ـ 1878 كتابه 'ضد دورنج[7]' (Anti Duhring). وبدأ بكتابه مؤلف ضخم عن 'جدلية الطبيعة[8]' الذي خلف لنا منه عددا من الفصول، وهو كتاب يفصل القول في حالة العلوم في عصره على ضوء المنهج الجدلي.
كان لا بد من أن يفوز المنهج الجدلي برضا عدد من العلماء الذين اعتنقوا الماركسية. وأشهر هؤلاء في فرنسا الفيزيائي العظيم بول لانجفين الذي كان أيضا مواطنا كبيرا ووطنيا رائعا.
برهن المنهج الجدلي على خصبه عند ماركس وانجلز نفسيهما. فلقد حل كل من ماركس وانجلز، وكانا ثائرين ومفكرين في نفس الوقت، لأنهما كانا جدليين، المشكلة التي لم ينجح سابقوهما في وضعها. فلقد طبقا الجدلية المادية على التاريخ الإنساني فأسسا علم المجتمعات (الذي يقوم على فلسفة المادية التاريخية). وسنرى كيف حدث هذا الاكتشاف الأساسي (الدرس الرابع عشر). وبهذا وضعا الأساس العلمي للاشتراكية.
ولهذا أعلنت البرجوازية، خدمة لمصلحتها الطبقية، الحرب على الجدلية لأن الجدلية فضيحة بالنسبة للطبقات المسيطرة ومفكريها، ولأن النظرة الموضوعية للأشياء الموجودة تتضمن أيضا ادراك زوال هذه الطبقات وفناءها الضروري. لأن هذه الجدلية تدرك الحركة ولا يمكن لأي شيء أن يفرض عليها هذه الحركة إذ هي جدلية نقدية ثورية[9] .
ولهذا لجأت البرجوازية إلى الميتافيزيقا، وسوف نبرهن على ذلك.
------------------------------
[1] انجلز: ضد دورنج . ص 392. المطبوعات الاجتماعية 1950.
[2] انجلز: ضد دورنج، ص 54 هاك مثالين بسيطين على هذا التفاعل حيث يصبح السبب نتيجة والنتيجة سببا: تكون مياه البحار والأنهار بتبخرها الغيوم التي تتساقط بدورها أمطارا تسقط على الأرض. كذلك يحتاج الدم الذي يدفعه القلب إلى الرئتين اللتين تمدانه بالأوكسجين كما أن الرئتين لا تعملان بدون الدورة الدموية.
[3] نجد أروع مثال على الجدلية الأفلاطونية في أحدى محاوراته الشهيرة، وهي محاورة سهلة أعني: فيدون (le phedon)
[4] انجلز: لودفيج فورباخ . ص 33 – 34. دراسات فلسفية ص 44.
[5] ماركس: رأس المال، الكتاب الأول. ج 1 و ص 29. مطبوعات الاجتماعية باريس 1948 تعنى كلمة 'demiurge' هنا 'المبدع' كما يعني التعبير (la forme phenomenale) 'الظاهر الخارجي الذي ترتديه الفكرة' (الفكرة عند هيجل هي جوهر الأشياء).
[6] لم يستطع الماديون الفرنسيون في القرن الثامن عشر(كديدرو، ودولباخ وهلفيتوس) الذين يرى فيهم ماركس اساتذته المباشرين ويؤمن بنظرتهم المادية للعالم، اكتشاف المنهج الجدلي. لماذا؟ لأن العلم في القرن الثامن عشر لم يتح لهم مثل هذا الأكتشاف. فقد كانت علوم المادة الحية لا تزال في المهد. ولقد رأينا الدور الكبير الذي قامت به في تكوين المادية الجدلية بادخالها فكرة التطور. وهي فكرة جدلية رائعة. (تقول بتطور نوع عن آخر).
وكان العلم السائد في القرن الثامن عشر هو علم الميكانيكا العقلية (نيوتن) الذي لا يعرف الا بأبسط صورة للحركة وهي تغيير المكان، فكان العالم آنئذ أشبه ببندول ساعة الحائط الذي يتأرجح دائما.
لهذا السبب سميت المادية في القرن الثامن عشر مادية ميكانيكية وهي بهذا مادية ميتافيزيقية لأنها لا تدرك التغير ولا تعرف نزاع الأضداد. وسنعود لبحث الميكانيكية (الميتافيزيقية) في الدرس التاسع.
[7] ف، إنجلز: ضد دورنخ (م. أ. دورنخ قلب الأوضاع العلمية) المطبوعات الاجتماعية.
[8] ف. انجلز: جدلية الطبيعة. المطبوعات الاجتماعية. باريس 1952. تسهل دراسة هذا الكتاب بعد قراءة محاضرة جورج كونيو عن 'جدلية الطبيعة' أثر عبقري لفردريك انجلز. المطبوعات الاجتماعية، باريس 1952.
[9] ماركس: رأس المال، الكتاب الأول، ج أ، ص 29. المطبوعات الاجتماعية باريس 1948.
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma