جدل التنمية والديمقراطية في العالم العربي وإفريقيا
ج1=ج2=ج3
جدل التنمية والديمقراطية في العالم العربي وأفريقيا (1/3)
بقلم: الدكتور عبد الله تركماني *
16/09/2007
تؤكد التجربة الإنسانية المعاصرة على قدرة أي مجتمع للنهوض والتنمية الشاملة، إذا أحسن الاستثمار في موارده الاقتصادية والبشرية، وإذا تبنّى سياسات ومخططات واقعية قابلة للتطبيق. ولكنّ الأمر يطرح مجموعة أسئلة:
هل الفاعلية الاقتصادية هي مفتاح التنمية؟ هل النظام السياسي هو محركها الأساسي؟
هل الظرف التاريخي وعلاقة الداخل بالخارج هو العنصر الحاسم؟ هل الموقع الجغرا - سياسي والثروات الطبيعية هي الفيصل؟ ثم ما هي التنمية نفسها وما مجالها؟ وما هي الديمقراطية وما علاقتها بالتنمية؟ وما هي إشكاليات التنمية والديمقراطية في العالم العربي وأفريقيا؟
مفهوم التنمية
لعل مقولة التنمية أمست اليوم محورا مشتركا لمعظم العلوم الإنسانية وتطبيقاتها، وقد عرّف إعلان "الحق في التنمية " الذي أقرته الأمم المتحدة في العام 1986 عملية التنمية بأنها "عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية". وهناك الكثير من التعريفات للتنمية المستدامة، والتعريف المتفق عليه هو "التنمية المستدامة هي التنمية التي تفي باحتياجات الحاضر دون التقليل من قدرة أجيال المستقبل على الوفاء باحتياجاتها".
إنّ التنمية المستدامة عملية مجتمعية يجب أن تساهم فيها كل الفئات والقطاعات والجماعات بشكل متناسق، ولا يجوز اعتمادها على فئة قليلة، ومورد واحد. فبدون المشاركة والحريات الأساسية لا يمكن تصوّر قبول الشعب بالالتزام الوافي والخلاّق بأهداف التنمية وبأعبائها والتضحيات المطلوبة في سبيلها، أو تصوّر تمتعه بمكاسب التنمية ومنجزاتها إلى المدى المقبول، كما لا يمكن تصوّر قيام حالة من تكافؤ الفرص الحقيقي وتوّفر إمكانية الحراك الاجتماعي والتوزيع العادل للثروة والدخل.
ومن هنا اكتسب مفهوم التنمية البشرية رواجا كبيرا منذ العام 1990 حين تبنّى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مضمونا محددا ومبسّطا له، شمل ثلاثة أبعاد: أولها، خاص بتكوين القدرات البشرية، مثل رفع مستوى الرعاية الصحية وتطوير القدرات المعرفية. وثانيها، يتعلق باستخدام البشر لهذه القدرات للاستمتاع في الحياة وزيادة إنتاجية العمل. وثالثها، ينصرف إلى نوع ومستوى الرفاه الإنساني بجوانبه المختلفة.
ولعله من المفيد التركيز على العناصر الأساسية التالية كمؤشرات للتنمية المستدامة:
(1)- التنمية عملية وليست حالة، وبالتالي فإنها مستمرة ومتصاعدة، تعبيرا عن تجدد احتياجات المجتمع وتزايدها.
(2)- التنمية عملية مجتمعية، يجب أن تساهم فيها كل الفئات والقطاعات والجماعات، ولا يجوز اعتمادها على فئة قليلة أو مورد واحد.
(3)- التنمية عملية واعية، وهذا يعني أنها ليست عملية عشوائية، وإنما عملية محددة الغايات، ذات استراتيجية طويلة المدى، وأهداف مرحلية ومخططات وبرامج.
(4)- التنمية عملية موجهة بموجب إرادة تنموية، تعي الغايات المجتمعية وتلتزم بتحقيقها، وتمتلك القدرة على تحقيق الاستخدام الكفء لموارد المجتمع، إنتاجا وتوزيعا، بموجب أسلوب حضاري يحافظ على طاقات المجتمع.
(5)- إيجاد تحولات هيكلية، وهذا يمثل إحدى السمات التي تميّز عملية التنمية الشاملة عن عملية النمو الاقتصادي. وهذه التحولات - بالضرورة - تحولات في الإطار السياسي والاجتماعي، مثلما هي في القدرة والتقنية والبناء المادي للقاعدة الإنتاجية.
(6)- بناء قاعدة وإيجاد طاقة إنتاجية ذاتية، وهذا يتطلب من عملية التنمية أن تبني قاعدة إنتاجية صلبة وطاقة مجتمعية متجددة لم تكن موجودة قبلا. وأن تكون مرتكزات هذا البناء محلية ذاتية، متنوعة، ومتشابكة، ومتكاملة، ونامية، وقادرة على التعاطي مع التغيّرات في ترتيب أهمية العناصر المكونة لها، على أن يتوفر لهذه القاعدة التنظيم الاجتماعي السليم، والقدرة المؤسسية الراسخة، والموارد البشرية المدربة والحافزة، والقدرة التقنية الذاتية، والتراكم الرأسمالي الكمي والنوعي الكافي.
(7)- تحقيق تزايد منتظم، بمعنى أنه ينبغي أن يكون تزايدا منتظما عبر فترات زمنية متوسطة وطويلة، وقادرا على الاستمرار في المدى المنظور، وذلك تعبيرا عن تراكم الإمكانيات واستمرارية تزايد القدرات وإطلاق الطاقات وتصاعد معدلات الأداء المجتمعي، وليس تعبيرا عن تغيّرات متأرجحة تلقائية المصدر غير متصلة السبب.
(- زيادة في متوسط إنتاجية الفرد، وهذا يمكن التعبير عنه بالمؤشر الاقتصادي المعروف "تزايد متوسط الدخل الحقيقي للفرد" إذا ما أخذ بمعناه الصحيح، وإذا ما توفرت له إمكانية القياس الصحيح.
(9)- تزايد قدرات المجتمع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتقنية هو الوسيلة لبلوغ غاياته، وهذا التزايد الذي يجب أن يكون متصاعدا، يجب في الوقت نفسه أن يكون بالقدر النسبي المقارن بالنسبة للمجتمعات الأخرى.
(10)- الإطار الاجتماعي - السياسي، ويتضمن آلية التغيير وضمانات استمراره. ويتمثل ذلك في نظام الحوافز القائم على أساس الربط بين الجهد والمكافأة، إضافة إلى تأكيد انتماء الفرد لمجتمعه من خلال تطبيق مبدأ المشاركة بمعناها الواسع، وكذلك جانب العدالة في توزيع ثمرات التنمية وتأكيد ضمانات الوجود الحيوي للأفراد والجماعات، وللمجتمع نفسه.
فهذه الجوانب، بالإضافة إلى كونها تمثل أهداف التنمية، هي في الوقت نفسه مصدر قوة وسائلها وفاعلية وكفاءة أدائها.
وفي سياق الاقتراب من تحقيق المؤشرات السابقة بُذلت جهود متعددة لتعريف الأبعاد السياسية لماهية الحكم الجيد، وهي تتراوح بين حكم القانون ومحاربة الفساد وفاعلية القطاع العام، وصولا إلى قدرة المواطنين على حرية التعبير من خلال نظام حكم ديموقراطي. إذ أنّ مؤشر المساءلة العامة يقيس مدى انفتاح المؤسسات السياسية ومستوى المشاركة واحترام الحريات العامة وشفافية الحكومات وحرية الصحافة.
إنّ الحكم الجيد/الرشيد لا يضمن - في ذاته - نتائج جيدة في مجال التنمية، لكنه شرط لا غنى عنه لمنع استمرار النتائج المخيبة والسياسات غير الفعالة، والانتقال إلى نتائج وسياسات أفضل.
تعريف الديمقراطية
خضع مفهوم الديموقراطية، مثله مثل بقية المفاهيم الحديثة، لتغيّرات وأقلمات عديدة، ومتغايرة. إنّ الديموقراطية، كما نفهمها في سياق جدلها مع التنمية، هي جملة من الأدوات الإجرائية التي تسمح بتنظيم الشأن السياسي العام في صورة ناجعة، لما توفره من آليات ضابطة ومنظمة للحياة السياسية، مثل: علوية القانون، والفصل بين السلطات، وتوزيع السلطة بدل مركزتها، واستقلال المجتمع المدني عن المجتمع السياسي، والسماح بتنظيم الأحزاب والجمعيات المستقلة، والانتخابات الدورية، وتداول السلطة سلميا.
إنّ الديموقراطية المعاصرة هي "منهج لاتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها. وهي منهج ضرورة يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته، منهج يقوم على مبادئ ومؤسسات تمكّن الجماعة السياسية من إدارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح بشكل سلمي".
جدل التنمية والديمقراطية
حقوق الإنسان لا تقبل التجزئة، وإنما هي حزمة متكاملة، اتسعت دائرتها خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة لتشمل حقوق جديدة، مثل: الحق في التنمية، التي لم تعد نموا اقتصاديا فحسب، بل تشمل أبعادا أخرى اجتماعية وثقافية وسياسية، كما أنها تحتاج لمشاركة الجمهور فيها.
إنّ الربط بين التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وضع على الدولة مسؤوليات وأعباء جديدة، مثل: الحق في السكن والتعليم والعمل والعلاج، والحق في حياة كريمة للمواطنين، تعتمد التعددية الفكرية والسياسية والحق في الاختلاف وتمفصل السلطات.
إنّ العلاقة بين التنمية والديموقراطية تمثل مسارا ذا اتجاهين، بمعنى أنّ الديموقراطية توفر آليات ومؤسسات من شأنها أن تمكّن من تحقيق تنمية حقيقية وذات وجه إنساني، وأنّ تقدم المسيرة التنموية من شأنه أن يخلق الظروف الموضوعية والمناخ الملائم لترسيخ الممارسات الديموقراطية في المجتمع.
ومن أجل تأكيد صحة هذه المقولة يجدر بنا إدراك دور الديموقراطية في توفير الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتحقيق العدالة في ثمار التنمية، وترشيد السياسات الاقتصادية، وتنمية الموارد البشرية، وتعبئة طاقات المواطنين، وضمان الاستخدام الأفضل للموارد الاقتصادية والبشرية، وتحسين أداء الأجهزة الحكومية والمؤسسات الاقتصادية، والكشف عن جوانب الخلل والقصور ومواطن الفساد والانحراف.
وغني عن القول: إنّ توسيع المشاركة الشعبية، في عملية صنع القرارات، يتطلب تشجيع منابر التحاور وتبادل الأفكار والتعبير عنها بحرية، وإقامة قنوات مفتوحة بين المواطنين والدولة، وإفساح المجال أمام المواطنين لتشكيل المنظمات الطوعية، بالإضافة إلى تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني الأخرى لتأتي تعبيرا عن خيارات المجتمع. كما تقتضي تكريس سيادة القانون، وتوفير الآليات الفعالة التي يمكن للمواطنين من خلالها ممارسة حقوقهم التي ينص عليها الدستور، وتمكين المواطنين من الحصول على المعلومات والبيانات الضرورية لفهم الواقع والتأثير فيه.
ولكي ندرك عمق العلاقة بين التنمية والديموقراطية فإنه لابد أن نتطرق إلى أهمية العنصر البشري في عملية التنمية، وإلى التأثير البالغ الذي تحدثه الديموقراطية لتطوير قدرات هذا العنصر وتفعيل دوره في عملية التنمية. إذ أنّ الإنسان هو العامل الحاسم والمحرك في عملية التنمية، فبقدر ما تتاح له الفرص لتطوير القدرات الكامنة فيه، وبقدر ما تتوفر له الحوافز لتوظيف هذه الطاقات في الأوجه الصحيحة بقدر ما يتمكن من استخدام الموارد المتاحة لتحقيق تنمية حقيقية وذات أبعاد إنسانية.
من هنا تأتي أهمية الديموقراطية، فهي بإفساحها المجال أمام المواطنين للمشاركة في صنع القرار تمكّن من وضع الحاجات الإنسانية في مقدمة أولويات عملية التنمية. ولا حاجة إلى القول بأنّ تلبية هذه الحاجات من شأنها أن تعمل على تطوير قدرات المواطن وتوسيع الخيارات أمامه على نحو يساعده على تحقيق ذاته، وإطلاق طاقات الخلق والإبداع الكامنة فيه.
إنّ إدراك المواطن بأنّ فرص التقدم مفتوحة أمامه، وأنّ تقدمه مرهون بعمله دون أي اعتبار آخر، وثقته بأنّ ثمار عمله ستعود عليه، سوف يدفعه إلى السعي - دون كلل - لاكتساب المزيد من المعارف والمهارات وبذل المزيد من الجهد في العمل.
ولعلنا لا نغالي إذا قلنا: إنّ تحقيق التنمية، وضمان استدامتها، هو أمر متعذر بمعزل عن الديموقراطية. على أنّ عملية التنمية لا تتأثر بالديموقراطية فحسب، بل تؤثر فيها أيضا. فالعلاقة بين التنمية والديموقراطية ذات طبيعة جدلية، وتنطوي على تأثير متبادل، فكما أنّ الديموقراطية توفر الإطار المحفز للتنمية، كذلك فإنّ التنمية تخلق القاعدة المادية والمناخ الملائم لتطور الديموقراطية.
فالتنمية، باعتبارها توسيع للفرص، تتيح للمواطن الارتقار بمعارفه ومهاراته وتطوير قدراته، واختيار العمل الذي يجد فيه ذاته ويحقق له دخلا يكفل له حياة كريمة، وينمي لديه الإحساس بالمسؤولية تجاهه، ويعزز اقتناعه بضرورة الاعتماد على الحوار والتواصل في التعامل مع القضايا العامة، الأمر الذي يخلق مناخا ملائما لمعالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية بالطرق السلمية. وكلما خطت التنمية ذات البعد الإنساني شوطا في مسارها، كلما توطد الاستقرار في المجتمع وترسخت بالتالي التجربة الديموقراطية.
بيد أنه من الخطأ الاعتقاد بأنّ التنمية تقود إلى الديموقراطية بشكل آلي وحتمي، فالتنمية تفرز أثناء التنفيذ عددا من المشاكل والصعوبات يمكن أن تهدد العملية الديموقراطية ما لم تتضافر جهود المواطنين والدولة لحلها بطريقة سلمية تعتمد على الحوار والتواصل، وتنطلق من الإحساس بالمسؤولية المشتركة والإدراك بضرورة التعاون للتعامل معها.
__________
* كاتب وباحث سوري مقيم في تونس، والمقال في الأصل ورقة قُدمت في إطار ندوة " الديمقراطية في الوطن العربي وأفريقيا: الواقع والآفاق "بدعوة من " المركز العربي – الأفريقي للإعلام والتنمية" في نواقشوط/ موريتانيا خلال يومي 8 و9 أغسطس/آب 2007.
جدل التنمية والديمقراطية في العالم العربي وأفريقيا (2/3)
بقلم: الدكتور عبد الله تركماني *
إشكاليات التنمية والديمقراطية في العالم العربي:
عندما صدر التقرير الثالث حول التنمية الإنسانية في العالم العربي في العام 2005، كان محتواه مفاجئا لغير المطلعين على الواقع العربي، وشعر الكثيرون بالصدمة من حالة الجمود والتأخر في مجال التنمية الإنسانية. إذ يقول التقرير: لقد توسعت أزمة التنمية العربية وتعمقت وأصبحت أكثر تعقيدا، ولم تعد الإصلاحات الجزئية، مهما تعددت، فاعلة أو ممكنة، وربما لم تكن كذلك.
أهم التحديات التي تواجه التنمية العربية
التنمية المستدامة التي تسعى إلى تحقيق حاجات العالم العربي حاضرا وتأمين استمرارها مستقبلا، بما هي نمط ثقافي له أبعاد اجتماعية واقتصادية وبيئية ومؤسساتية، تواجه اليوم تحديات وعقبات على مستوى ثقافة التنمية السائدة وعلى مستوى المؤسسات وإدارة الشؤون العامة في كل قطر عربي، وهذه التحديات هي:
1 - أزمة المشاركة في العالم العربي، وهنا لا نريد أن نثير الجانب السياسي من المسألة بشكل مباشر، بل جانب إشراك كل الناس، وكل فئات المجتمع في أية عملية تنموية فعلية وصحيحة، لأنه من أول شروط تحقيق التنمية واستدامتها، مشاركة أبناء المجتمع كافة فيها، مشاركة الناس في نقاش الخيارات المتاحة، وشعورهم بأنّ لهم دورا ورأيا وحضورا في هذه المسألة، بل شعورهم بأنّ هذه العملية تمثل تطلعاتهم ومصالحهم في الحاضر والمستقبل.
2 - ضعف هيئات المجتمع المدني، فبالرغم من وجود العديد من المؤسسات المهنية والنقابية والعمالية والبيئية والاجتماعية والثقافية، التي تقوم بنشاطات قيّمة في مجال الحفاظ على البيئة وحقوق الإنسان ومسائل اجتماعية واقتصادية مختلفة، إلا أنّ هذه المؤسسات ما زالت دون حجم التحديات والحاجات القائمة.
3 - هيمنة المركزية وضعف الحياة البلدية أو المجالس المحلية، إذ تتميز الأنظمة الإدارية العربية - بشكل عام - بهيمنة أجهزة الدولة المركزية على حياة الهيئات المحلية من بلديات ومجالس أو إدارات مستقلة، وبضعف اللامركزية الإدارية.
4 - ضعف حضور دولة الحق والقانون، فمسألة تعادل الفرص والمساواة أمام القانون مسألة حيوية جدا، وهي تشعر المستثمرين والمواطنين بالطمأنينة والاستمرار في عملية التنمية، وبدونها يسيطر جو من انعدام الثقة بين المواطنين وأجهزة الدولة، وهو ما يولّد قلقا اجتماعيا عميقا يعيق أية عملية تنموية فعلية.
5 - الطبيعة الريعية للاقتصاديات العربية، وهي أحد مظاهر الضعف ومصادر أزمة التنمية العربية، الأمر الذي يتطلب صياغة استراتيجية فعالة لنقل الاقتصاديات العربية من طبيعتها الريعية إلى الطبيعة الإنتاجية، القائمة على أساس تنويع الدخل وزيادة القدرة التنافسية للاقتصاديات العربية.
مؤشرات ضعف التنمية الإنسانية العربية
ثمة مؤشرات كثيرة تدل على ضعف عملية التنمية البشرية في العالم العربي استنادا إلى معظم، إن لم يكن كل، مؤشرات هذه العملية. إنّ الجزء الظاهر من هذه المشكلة يتمثل في الفقر واللامساواة، لكنّ الفقر في الحقيقة ليس سوى جزء من المشكلة، فإلى جانبه هناك مؤشرات كثيرة:
ضعف مستوى الرعاية الصحية، وانحسار واضح في فرص التعليم الجيد، وغياب شبه كامل أو ضعف مزمن في سياسات الأمان الاجتماعي. أما الحرمان واللامساواة في القدرات والفرص، فهما أكثر استشراء من فقر الدخل أو اللامساواة الاقتصادية، إذ تشير الإحصاءات إلى أنّ نسبة الحرمان، بمعايير التنمية الإنسانية الأساسية، تبلغ حوالي 32.4 % من إجمالي السكان في العالم العربي.
فما زال الناتج الإجمالي يتراوح نموه بين 0.5 -1 % منذ عقدين بينما تتراوح نسبة النمو الطبيعي للسكان بين 2.5 – 2.6 % سنويا، مما يعني أنّ الدخل الحقيقي للفرد العربي قد انخفض في هذه الفترة بنسبة 40 %، يضاف إلى ذلك أنّ 60 % من المواطنين العرب يقعون ضمن الفئة العمرية تحت 35 عاما، ويمثل الأطفال تحت سنة 15 عاما نسبة 40 % من تعداد السكان.
إضافة إلى أنّ عدد المواطنين العرب الذين يعيشون تحت خط الفقر يتراوح ما بين 65 و 73 مليون نسمة، كما يقاسي حوالي عشرة ملايين عربي من سوء التغذية، وتصل نسبة الأمية إلى نحو 25 % ونسبة البطالة إلى 20 %، في حين أنّ الحكومات العربية قد أنفقت، خلال العقود الثلاثة الماضية، ما يقرب من 1800 مليار دولار على شراء الأسلحة بذريعة حماية الأمن الوطني والقومي. وفي الوقت نفسه تناقص تمويل التعليم تدريجيا منذ عام 1995، إذ انخفض الإنفاق على التعليم للفرد في الدول العربية، نسبة إلى الدول الصناعية، من 20 % عام 1980 إلى 10 % في منتصف التسعينيات.
ورغم الحديث عن ديمقراطية التعليم وإلزاميته فإنّ الأعداد المطلقة للأميين تتكاثر في العالم العربي، فقد ارتفع عدد الأميين العرب من 58 مليونا عام 1982 إلى 61 مليونا عام 1990، وإلى حوالي 70 مليون عام 2000 بما يشمــل 40.4 % من جملة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 64 سنة. فإذا علمنا أنّ هذه الفئة العمرية هي نفسها من ضمن العناصر البشرية التي تخدم التنمية العربية، لاتضحت الحالة الحرجة لنوعية القوى العاملة التي تمارس النشاط الاقتصادي في العالم العربي.
إذ تتسم العمالة العربية - عموما - بانخفاض مستوى المهارة، نتيجة اتسام سياسات التعليم والتدريب في الدول العربية بأنها غير فعالة وغير قادرة على خلق العمالة الماهرة، القادرة على التلاؤم مع متطلبات مجتمع واقتصاد المعرفة.
كما أنّ ظاهرة البطالة تعتبر من التحديات الكبرى التي ستواجه العالم العربي في السنوات القليلة القادمة، إذ تزايد حجم القوى العاملة سنويا بـ 2.5 مليون خلال تسعينيات القرن الماضي، وقد ترتفع الزيادة خلال العقد الحالي إلى 3.350 مليون سنويا، وبالتالي فثمة حاجة إلى ما يزيد عن مليونين ونصف مليون فرصة عمل مطلوب توفيرها سنويا. وتكمن خطورة البطالة في ارتباطها بعدالة توزيع الدخل، ومحاربة الفقر، وحرمان العامل من تلبية احتياجاته الأساسية، وممارسة حق العمل الذي لم يترسخ حق الاعتراف به حتى الآن.
ومما يضاعف المشكلات العربية أنّ عدد السكان سيتضاعف خلال الثلاثين سنة المقبلة، وسيصبح سنة 2050 حوالي 645 مليونا، ما يعني أنّ معدل النمو السكاني في المنطقة العربية سيكون أعلى من معدل النمو الاقتصادي. والسكان في سن العمل (15 - 59) سيصل عددهم سنة 2025 إلى حوالي 285 مليونا، ومن المتوقع أن يصل حجم القوى العاملة العربية إلى 125 مليونا في سنة 2010.
مع العلم أنّ عدد المهاجرين إلى الخارج، من أصحاب الكفاءات والاختصاصات المهمة، يقدر بملايين عدة من الفنيين وحملة الشهادات العليا، وهم القوى الأساسية الضرورية لأية نهضة حقيقية (قدرت خسارة العرب بسبب هجرة العقول العربية بـ 1.57 مليار دولار سنويا).
وفي الواقع تواجه الدول العربية تحديات إنمائية في تحقيق أهداف الألفية: فهناك نحو 10 ملايين طفل خارج المدارس، وعدم المساواة بين الجنسين ما زال قائما، حيث تبلغ نسبة الأمية لدى النساء نحو 50 %، وتحتل النساء نحو 5 % فقط من المجالس التشريعية العربية. وعلى المستوى العربي، فإنّ متوسط مؤشر التنمية الإنسانية، البالغ0.651 هو أقل من المتوسط العالمي البالغ 0.729 بحسب تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة في العام 2004، كما أنّ المؤشر للمنطقة العربية هو أقل من مؤشر البلدان النامية البالغ 0.663.
ولا شك في أنّ هذه الصورة الإجمالية للدول العربية تخفي التفاوت الكبير بين أوضاعها وبين تقدمها نحو تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية الثالثة.
وقد تبدو الصورة التي تبرز عن التقدم العربي نحو تحقيق أهداف الألفية بحلول عام 2015 غير مشجعة، ومع ذلك يمكن للدول العربية، إذا رغبت وصممت، أن تغيّر الوضع القائم وتقود المسيرة نحو تحقيق الأهداف المرجوة بتبنّي إدارة حكم رشيدة، وسياسات إصلاح عادلة لصالح الفقراء، وإدارة موارد نشطة وفاعلة، وتحديد أولويات واضحة ودقيقة للتنمية البشرية، وتبنّي أو تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي القادرة على خلق فرص عمل تمتص الداخلين إلى سوق العمل، وتستقطب نسبا متزايدة من صفوف العاطلين عن العمل، ومعالجة الفجوات بين المدن والأرياف.
إنّ المطلوب من الدول العربية لمواجهة هذه التحديات أن تعيد صياغة توجهات ومسار التنمية العربية، بما يساعدها على الاستفادة المتبادلة من الإمكانيات والموارد المتوافرة لديها ككتلة إقليمية قادرة على الاستمرار والتواصل، وتطوير التعليم التكنولوجي وتضييق الهوة ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وفقا للتطور العلمي والتكنولوجي، وهذا يتطلب توفير بيئة سياسية وأمنية مناسبة مستقرة، تحمي الطبقات الفقيرة وتحفظ حقوق الإنسان الأساسية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتحفظ استقلال الوطن وأمنه وتؤمن مستقبله ومستقبل أجياله.
__________
* كاتب وباحث سوري مقيم في تونس، والمقال في الأصل ورقة قُدمت في إطار ندوة "الديمقراطية في الوطن العربي وأفريقيا: الواقع والآفاق" بدعوة من "المركز العربي – الأفريقي للإعلام والتنمية" في نواقشوط/موريتانيا خلال يومي 8 و9 أغسطس/آب 2007.
جدل التنمية والديمقراطية في العالم العربي وأفريقيا (3/3)
بقلم: الدكتور عبد الله تركماني *
إشكاليات التنمية والديمقراطية في أفريقيا:
تتكون أفريقيا حاليا من 53 دولة، وهذا الرقم يرسم صورة التجزؤ والتفكك والتمزق السياسي. وفي أفريقيا اليوم يبلغ معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة 140 حالة لكل 1000 طفل، كما أنّ معدل الحياة المتوقعة عند الولادة لا يتجاوز 54 عاما، ويحصل 58 % فقط من السكان على مياه نظيفة، ويصل معدل الأمية بين السكان الذين تتجاوز أعمارهم 15 عاما 41 %.
إنّ الدول الأفريقية، التي بدأت موجة الاستقلال الكبرى الأولى من القوى الاستعمارية عام1960، ردد قادتها شعارات الحرية والتنمية الاقتصادية كسبيل للنهوض بدول القارة، بيد أنّ الشعارات والأهداف الأفريقية النبيلة التي التفت الشعوب من حولها سرعان ما انتكست، مما أدى إلى تدهور الأوضاع، وهو ما أسفر عن إهدار العديد من الدول الأفريقية لفرص التقدم والنمو الاقتصادي.
وثمة إجماع في الرأي، من جانب عدد من الخبراء المعنيين بالشؤون الأفريقية، أنّ أبرز أسباب إهدار إفريقيا لفرص التقدم هي: أولا، غياب النظم الديمقراطية، وليس أدل على ذلك من أنّ أفريقيا صارت ساحة مفتوحة لتعاقب الانقلابات العسكرية، مما أشاع عدم الاستقرار السياسي في العديد من دول القارة.
ثانيا، غياب نظم الحكم الرشيدة في العديد من الدول الأفريقية، مما أدى إلى تفشّي: الفساد، والقبلية، والنزاعات العرقية التي عبرت عن نفسها في سلسلة جهنمية من الصراعات العرقية والحروب الأهلية التي دمرت إمكانيات التقدم. ثالثا، في ظل هذه الأوضاع المتردية، لم تجد النخب الأفريقية سبيلا للحياة سوى بالهجرة إلى الخارج، وهو ما يعرف باسم هجرة العقول أو نزيف العقول الأفريقية، ولا جدال في أنّ مثل هذه الهجرة تقلص عدد الكوادر المتعلمة القادرة على المشاركة الفعالة في تنمية الأقطار الأفريقية.
الوضع الاقتصادي في أفريقيا
الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أغلب الأقاليم الأفريقية تبعث على القلق: إنّ منطقة شمال أفريقيا لا تزال تعتبر أهم المناطق الاقتصادية في أفريقيا حيث تساهم بنسبة 41 % من الدخل القومي للقارة، مقابل 17 % لغرب أفريقيا، و5.3 % لوسطها، و8.4 % لشرقها، و28.3 % لمنطقة الجنوب الأفريقي.
ولا شك أنّ الناتج الإجمالي للقارة يتأثر بعامل رئيسي ألا وهو أسعار النفط، وهو تحدٍ يواجه القارة منذ عقود، ففي الوقت الذي تساهم فيه زيادة أسعار النفط في نمو سريع في الدول الإحدى عشرة المنتجة للبترول في أفريقيا، إلا أنّ ذلك يؤدي إلى ازدياد التضخم وإلى صعوبات اقتصادية كبيرة في الدول الأخرى المستوردة للنفط (42 دولة في القارة).
ومن جهة أخرى، أظهر القطاع الصناعي الأفريقي ضعفا في التعامل مع التطورات الاقتصادية الدولية، بسبب انخفاض الاستثمارات في هذا القطاع، وخصوصا في مجال تطوير المصانع القديمة وتزويدها بآلات حديثة تساير التطورات التكنولوجية العالمية.
أما قطاع الخدمات، الذي شهد أسرع القطاعات نموا، فإنه لن يؤدي إلى إحداث تغيّرات جوهرية في الأداء الاقتصادي كما كان مأمولا منه، بسبب أنه تركز أساسا في المدن، في حين أن غالبية السكان يقيمون في الريف.
إذ يعمل في قطاع الزراعة أكثر من 70 % من القوى العاملة، ويساهم بما يقدر بنحو 30 % من الإنتاج القومي الكلي للقارة، ومع ذلك فإنّ المزارعين الأفارقة هم أكثر فئات المجتمع فقرا.
تحديات التنمية الأفريقية
منذ مطلع القرن الحالي والقارة الإفريقية تشهد صراعا محتدما في الأفكار والتوجهات السياسية، بحثا عن الموقع الصحيح للقارة على خارطة هذا العصر في ميادين النهضة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وقد جاء هذا التدافع الأفريقي نحو مستقبل أفضل، على خلفية أحداث كبرى متسارعة،
أهمها: زوال عهد الحرب الباردة، وانهيار النظام العنصري في أفريقيا الجنوبية، وتسارع خطى العولمة والثورة المعلوماتية التي جعلت من عالمنا الكبير وحدة متشابكة انطوت فيها المسافات وتعاظمت فيها إيقاعات التفاعل بين كل الشعوب.
ومن هذا المدخل تبلورت رؤية أفريقية، تكاد تحظى بالإجماع، حصرت قائمة من التحديات الكبرى: أولها، يتمثل في تفعيل مؤسسات الاتحاد الأفريقي، بحيث تكون مؤسسات الاتحاد الوليدة ذات ممارسة فاعلة في التطور النوعي المؤسسي، من خلال ترجمة طموحات الشعوب الأفريقية وتوظيف الاتحاد لضرورات النهوض والتقدم في كافة مجالات الحياة.
وثانيها، مكافحة الفقر المدقع الذي تعاني منه كثيرا من شعوب أفريقيا جنوب الصحراء.
فطبقا لسجلات برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإنّ واحدا من كل ثلاثة أشخاص في أفريقيا يعاني من سوء التغذية، وفي كل عام يلقى مئات الآلاف من الأطفال الأفريقيين حتفهم لأسباب يمكن الوقاية منها، يتعلق معظمها بسوء التغذية والجوع، الذي يجعل الجسم أقل مقاومة للمرض.
وثالثها، ضرورة وقف الحروب الأهلية والصراعات المسلحة من أجل إحلال السلام والاستقرار، وما يستتبع ذلك من بيئة تصون حقوق الإنسان وتحفز على الإنتاج والإبداع والاستثمار.
ولاشك أنّ مواجهة هذا التحدي ليست بالأمر اليسير، نسبة لتشابك العوامل التي تغذي هذه الحروب من داخل أفريقيا ومن خارجها، ولكن لا مفر من التعاطي المجدي مع هذا التحدي، لأنّ القضاء على هذه الصراعات المسلحة هو مفتاح الأمن والاستقرار والتنمية والتخلص من الكثير من مسببات الجنوح السياسي والفساد.
ورابعها، يتمثل في خلل عمل مؤسسات سلطات الدول الأفريقية ونظمها، مما يتطلب توسيع قاعدة المشاركة الشعبية عبر نظم سياسية ديمقراطية حديثة، تتمكن من محاربة الفساد بكل مظاهره، وتدير الموارد الاقتصادية والبشرية إدارة عقلانية ذات جدوى.
وخامسها، التخلص مما سماه بعض الناشطين الأفارقة مؤخرا بأسلحة الدمار الشامل في أفريقيا، المتمثل في أمراض: الإيدز والملاريا والسل الرئوي، إذ يحصد هذا الثالوث المتلازم الأرواح حصدا لا هوادة فيه.
وسادسها، ضرورة الانخراط الواعي في مسيرة التحولات العالمية الكبرى، خاصة ثورة المعلومات والاتصالات واقتصاد المعرفة. وسابعها، دور منظمات المجتمع المدني، فبالنظر إلى هشاشة بنيات الكثير من المؤسسات الرسمية في الدول الأفريقية فإنّ منظمات المجتمع المدني يمكن أن تقوم بدور إيجابي، جنبا إلى جنب مع الهيئات الرسمية.
ولعل بيت القصيد هنا أن ندرك بأنّ الجهد العام للنهوض بأفريقيا يستوجب تكاملا، تقوم به كل الموارد البشرية والمادية في منظومة تتسلح بمقومات النهوض العصري والمستدام.
ولامناص لأفريقيا من مواجهة هذه التحديات بجدية تامة، ونظرة مستقبلية ثاقبة، وإعمال للإرادة الجماعية التي تصمم على تحويل وضع القارة من مظاهر الفقر والمرض والصراعات المسلحة إلى واقع يسعى إلى التنمية المستدامة، ويحارب الفقر، ويرسي قواعد السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان.
متطلبات نجاح برامج التنمية
من أجل تحقيق التنمية المستدامة والقضاء على الفقر وإقامة المؤسسات الديمقراطية المستقرة، فإنّ أفريقيا بحاجة إلى إصلاح نظم الحكم فيها، وتحقيق الشفافية والاستقرار من أجل تشجيع الدول المانحة والاستثمارات الدولية.
وإذا كنا نطالب دول العالم المتقدم بعدم تجاهل مشاكل أفريقيا وأن تضعها ضمن أولويات اهتماماتها، وذلك بالمشاركة في عملية التنمية وزيادة المساعدات وتخفيف أعباء الديون عليها، فلابد من تأكيد أنّ المسؤولية الرئيسية تقع على عاتق الأفارقة أنفسهم، وذلك بالقضاء على الفساد الذي ينخر في جسد الكثير من الأنظمة الحاكمة، وتحقيق التنمية باستغلال الثروات الكامنة فيها والقضاء على الأمراض وفض المنازعات الداخلية فيما بينها، وذلك عن طريق اتخاذ الخطوات الجادة نحو الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعبر عن طموحات وآمال الشعوب الأفريقية.
إنّ طريق الإصلاح الديمقراطي في أفريقيا كان دائما طريقا محفوفا بالمخاطر في قارة تتحكم فيها: القبلية والجهل، والفساد السياسي الذي أفضى إلى سوء استغلال الموارد الكبيرة. مما دعا البعض إلى السؤال عن جدوى الدفع في اتجاه تحقيق الديمقراطية، قبل تحقيق الأمن والتنمية والتعليم.
وفي الواقع، منذ أن فتحت أفريقيا عينيها على صورة الديمقراطية، في بدايات حقبة التسعينيات من القرن الماضي، عندما نجح نيلسون مانديلا في كسر معقل التمييز العنصري وحول جنوب أفريقيا إلى بلد ديمقراطي متعدد الأعراق، لم يتوقف المد الجارف، لتبدأ القارة فصلا جديدا من فصول تحولها السياسي المثير للتأمل. فقد شهدت العديد من أقطار القارة موجة من التحولات السياسية نحو الأخذ بالديمقراطية، مما دفع بعض المحلليين للحديث عن " ربيع الديمقراطية في أفريـقيا ".
إلا أنه بعد ذلك أخذت النظم الديمقراطية تتخبط، وعادت بعض الديكتاتوريات تنتعش من جديد. إذ لا نجد في التقارير السنوية عن التنمية البشرية، الصادرة عن الأمم المتحدة، إلا أسوأ الحالات، مع رصد للتراجع الديمقراطي.
وهكذا أثار بعض المحللين التساؤلات عن العوامل المختلفة التي تؤثر في التطور السياسي وتتأثر به، وتحليل انعكاساتها علي عملية التحول الديمقراطي. وهنا يبرز دور العوامل الاقتصادية كمحدد رئيسي لاتجاهات التغيير السياسي، ويثور التساؤل عن تأثير الأوضاع الاقتصادية على الديمقراطية وتأثير الديمقراطية علي الأوضاع الاقتصادية.
وأيا كانت الاجتهادات النظرية بهذا الشأن، فإنه لا يمكن إنكار وجود عدد من العوامل الاقتصادية التي تعوق عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا، وفي مقدمة هذه العوامل انتشار الفقر، وما ينطوي عليه من انشغال السكان بتوفير قوتهم اليومي، وتكون المشاركة السياسية في أواخر سلم أولوياتهم، مما يجعلهم منعزلين عن العملية السياسية بكاملها.
وبالرغم من ذلك، فلنتأمل الميول الثلاثة الكبرى في أفريقيا: الأول، أنّ عدد الأنظمة الديمقراطية في العام 1989 لم يكن يتجاوز الأربعة، أما اليوم فقد ارتفع ذلك الرقم إلى ثمانية عشر، من بينها: جنوب أفريقيا، موزامبيق، تنزانيا، بنين، مالي، غانا، السنغال، ليبريا، المغرب، موريتانيا ...
ويتلخص الميل الثاني في التحسن الواضح الذي طرأ على السياسة الاقتصادية، إذ ولت، باستثناءات ضئيلة، أيام أسعار الصرف المزدوجة، ومعدلات التضخم الهائلة، والحواجز التجارية المكثفة.
أما الميل الثالث فيتلخص في التوصل أخيرا إلى حل لأزمة الديون في كثير من البلدان الأفريقية، والتي دامت ربع قرن من الزمان.
الأمر الذي سمح لحكومات هذه البلدان بضخ قدر أعظم من الاستثمارات في الصحة، والتعليم، والبنية الأساسية.
وتتداخل هذه الميول الثلاثة في مجموعة تتألف من نحو خمسة عشر بلدا أفريقيا، تبدي التزاما قويا بالحكم المسؤول والسياسات الاقتصادية الرشيدة، وتحرص هذه الدول على التحاق المزيد من أطفالها بالمدارس، ومكافحة الأمراض، وتوفير الفرص الاقتصادية الجديدة للفقراء.
ففي غضون العقد الماضي ارتفع متوسط الدخل في هذه البلدان بنسبة 25%، وهو تحسن كبير مقارنة بنسبة النمو التي كانت متوقفة عند الصفر في الماضي. وربما كانت هذه الدول ما تزال تمر بمرحلة نقاهة هشة، إلا أنها استعادت نشاطها حقا، وأصبحت تشكل أملا جديدا لبلدان القارة كافة.
أية تنمية في المستقبل؟
لم يعد الناس ينظرون إلى المستقبل على أنه ذلك المجهول الذي لا يمكن معرفة مكنوناته والتحكم في مجرياته، بل باتوا يخططون له ويعملون على التأثير في اتجاهاته الرئيسية.
وفي الفترة الانتقالية التي يعيشها العالم كله، بما فيه العالم العربي وأفريقيا، فإنّ الشعوب العربية والأفريقية مشدودة إلى المستقبل، لذلك نرى أهمية صياغة تصورات أولية للتنمية في المستقبل، منطلقين من أنه لم يعد ممكنا الكفاح ضد " النظام العالمي " من خارجه، فالعالم أضحى اليوم " قرية صغيرة " أطرافه مترابطة ومتبادلة المنافع. مما يجعلنا ندرك أنّ قوة العالم العربي وأفريقيا وقدرتهما على التعامل المتكافئ مع العالم الخارجي إنما هما مرهونتان - أساسا - بقدرة أقطارهما على التنسيق والتكامل فيما بينها، وعلى خلق سوق عربية وأفريقية متسعة واحدة، تحقق الكفاية والفاعلية الاقتصادية من ناحية، والقدرة على تقليص التبعية والتعامل المتكافئ مع الخارج من ناحية أخرى.
إنّ المسألة ذات التأثير البالغ على مستقبل التنمية تتمثل في عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، فالكثير من أسباب تعثر التنمية يعود إلى الوهم بإمكان تعجيل التنمية الاقتصادية في غياب تحرك واضح في اتجاه التحديث السياسي.
وثمة قضية هامة أخرى تتمثل في الموقف من قطاع الدولة، إذ أننا نعتقد أنّ أية تنمية عربية وأفريقية ناجحة في المستقبل مرهونة بالمحافظة على دور هذا القطاع في الاقتصاد الوطني، خاصة في المشاريع الاستراتيجية. إذ أنه لابد من تدخل قوي لسلطة الدولة في وضع المعايير والقوانين والسياسات، وفي جمع الموارد المالية وتوزيعها، وفي إعداد البرامج الاجتماعية ومراقبتها من أجل ضمان الرفاهية للشعوب العربية والأفريقية.
ولعل أبرز المهمات العاجلة للبدء بالإصلاح الشامل: احترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان العربي والأفريقي، باعتباره حجر الزاوية في بناء الحكم الصالح والقادر على إنجاز التنمية البشرية المستدامة، وتمكين المرأة من بناء قدراتها الذاتية والمشاركة، على قدم المساواة مع الرجل، في جميع مجالات العلم والعمل والإبداع، واكتساب المعرفة وتوظيف القدرات البشرية بكفاءة في النشاطات الاجتماعية لتحقيق الرفاه الإنساني.
__________
* كاتب وباحث سوري مقيم في تونس، والمقال في الأصل ورقة قُدمت في إطار ندوة "الديمقراطية في الوطن العربي وأفريقيا: الواقع والآفاق" بدعوة من "المركز العربي – الأفريقي للإعلام والتنمية" في نواقشوط/ موريتانيا خلال يومي 8 و9 أغسطس/آب 2007.
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma