السيــــادة
La Souveraineté
38 – بالنسبة لكثير من الناس وفي نظر العديد من الشعوب فإن الله هو السيد الوحيد. غير أن العلمنة التي حصلت تدريجيا في حكم الدولة أصابت المفاهيم السياسية وفي مقدمتها مفهوم السيادة التي تناولتها المناقشات المذهبية في محتواها وفي طبيعتها.
بمنطق الأمور والأشياء الإنسانية، تعلن السيادة لكل من لا يعترف بسمو أي سلطة، فحكمه ذاتي لا يخضع للتقادم وكامل ووحيد وحصري لا يقاسمه فيه أحد.
39 – في داخل كل دولة لا يمكن ممارسة إلا سيادة واحدة "غير قابلة للتقسيم ولا للتنازل ولا تتقادم"? كما جاء في الدستور الفرنسي لسنة 1791 وهو يعبر عن تحديد القواعد القانونية والسياسية التي تبين صلاحيات وسلطات القيادة ومن خلال إمكانية اختيار السلطات التي تمثل الشعب وتتعهد باسمه تجاه الآخرين، ومن خلال القدرة على اتخاذ القرارات التي تفرضها التقديرات الحرة لحاجاته ومصالحه وأهدافه الداخلية والخارجية.
40 – إن ممارسة مثل هذه الصلاحيات داخليا لا تخضع لأية سلطة أجنبية ولا لأية مراقبة دولية، كما أنها تتحمل أيضا الصلاحيات الخارجية بمعنى اختيار وتنفيذ مناورات تعبر عن وجود وتحرك كل دولة. وعلى هذا فإن العلاقات الدبلوماسية والقانون الدولي لا يأخذان بعين الاعتبار والحسبان سوى الدولة على أنها صاحبة الحق في مثل هذه الصلاحيات الأساسية وهي دولة يتحدد مفهومها بالنظر للآخرين، مهما تكن هيكلتها الداخلية ونظامها السياسي.
41 – يسود المجتمع الدولي المعاصر بشكل واسع التأكيد على مفهوم الدولة ذات سيادة والذي انبثق من التطور الذي حصل في أوروبا. فقد نشأت بين الشعوب القاطنة في هذه القارة علاقات نسجت عبر الزمن. وهي علاقات من نوع خاص جدا، إذ يوحدها تضامن حقيقي وفعال قد يبادر إلى إبعاد أمثال نابليون الذين لا يمتثلون ولا يعبئون بقواعد هذه العلاقات. وليس بمقدور أي ملك أو أية أمة أن يدعي لنفسه احتكار السيادة، وعليه فقد اعتبرت دبلوماسية، تلك العلاقات التي قامت بين سلطات لم يصب صلاحياتها لا خضوع زمني ولا تقسيم.
لقد مكنت حيوية أوروبا العلمية والصناعية والثقافية من التوسع في هذا البناء السياسي. وقد يحدث أحيانا أن تستعمل القوة لاخضاع شعوب أخرى وفرض تواجد أوروبا عليها وعلى مبادلاتها كما حصل مع الصين ابتداء من سنة 1840 عندما تحاملت عليها انجلترا وبعض البلدان الأوروبية إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
42 – رغم رفض السيطرة الأوروبية، التي لازالت فيما بعد، فإن حال الدبلوماسية بقيت محافظة على أسسها كما بنتها ورسمتها، فارضة نفسها. فالدول التي أبدت رفضها البات لهذا النوع من العلاقات الدولية، كالاتحاد السوفيتي (السابق) في بدايات نشوئه، عادت لتخضع سلوكياتها له. كما أن الرغبة في اعتماد شارات ووسائل الشخصية الدولية، تعد من أولى مظاهر الدول الحديثة العهد بالاستقلال، ويمكن التحقق من أن تشكيل الاتحاد الفرنسي ومجموعة الكومنولث، إنما يترجم العدوى في الحاجة إلى التوصل إلى الحوار بين الشعوب. فالدولة في النظام الدولي الحالي تبقى إذن هي المتحدث باسم المجتمع. فتقوم بتأطيره وتعبر عن طموحاته وخصوصياته وتدافع عن أمنه ومصالحه وكرامته.
43 – إن الدخول الآني في الحوار الدبلوماسي هو من امتياز واحتكار الدولة دون غيرها من الكيانات. فالحرب مثلا من الدلائل العليا المعبرة عن السيادة، غير أن هذه السيادة تبقى دائما عرضة لمخاطر الزوال. كما أن زوالها يحرم الدولة من مهمتها في الاتصال بالآخرين، فالإنضواء تحت لواء التبعية يعبر في أساسه عن الانسحاب من المشاركة في العلاقات الدولية، فجيورجيا مثلا، كانت مملكة مستقلة منذ بدايات العصر المسيحي، إلا أنها أضاعت الأهلية الدبلوماسية عندما حولت روسيا القيصرية معاهدة الحماية الموقعة بينهما في سنة 1793 إلى ضم عام 1801.
44 – إن نظام الحماية (Protection) مفهوم سياسي غامض وغير دقيق لأنه يتكيف مع توازن القوى بين الأطراف المعنية. فيبدو أحيانا كمقدمة للضم ويعبر تارة عن ضمانات ويظهر تارة أخرى في شكل تطور مآله الاستقلال، كما حصل مع الأمم التي كانت تابعة لتركيا إذ تحررت أثناء القرن التاسع عشر. إن الدولة الخاضعة لنظام الحماية تحتفظ بشخصيتها الدولية حتى وإن لم تمارس منها بعض الجوانب (مثل صلاحيات التنازل أو التفاوض) وعلى غرار الانتداب ونظام الوصاية، فإن الحماية تؤدي إلى نقل مسؤوليات الدفاع والدبلوماسية من المحمي لصالح الحامي.
45 – تنتظم العلاقات بين الدول حول مبدأ بساطته المنطقية بديهية بقدر البداهة المنبثقة من الوقائع، ويتمثل في مبدأ المساواة في استقلالها. إن المفهوم انتشر في العالم رغم سوء تكييفه لحالات الاختلاف الشديد بين الدول في أحوالها وثرواتها. إن حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها قد توسع ليمس تدريجيا ميادين متفرقة مثل الثروات الطبيعية والنشاطات الصناعية والإعلام. كما مكنت حرية تقرير المصير في ممارسة الأمم المتحدة من إضفاء الشرعية على الكفاح ضد الهيمنة الاستعمارية ولكنه لم يطبق لا على جميع الأنظمة السياسية ولا على وضع الأقليات داخل الدول.
46 – لطالما عانت الدبلوماسية من صعوبة إيجاد تحديد لمحتوى شرعية الدول النابعة من السيادة . وتمتد هذه الصعوبة حتى إلى داخل المنظمات الدولية أين ينشئ هذا المبدأ عددا كبيرا من الأحكام والإجراءات والإعلانات التي تفرض قواعد للسلوك. إن بروز دول حديثة وقوى جديدة تتخطى الحدود القومية، يساهم في إعادة النظر في مسلمة تتعرض اليوم إلى انتهاكات أكثر مما يتم التذكير النظري بها رغم التأكيد عليها في وثائق الأمم المتحدة، مثلا.
ينطلق مفهوم المساواة بين الدول من نظرة سلبية مؤداها نفي التمييز القانوني بينها مما يجعلها تأخذ لونا جديدا بالنظر إلى الاختلال الدائم والمتعاظم في خيرات وثروات الشعوب، وهو أمر يخلق على المستوى الإنساني حالات يصعب تحملها. ومن جهتها، فإن إرادة القضاء على هذا التطور المأساوي تدفع الدبلوماسية إلى محاولة التفكير في أنواع جديدة من التوازن أو في طرق لإصلاح ظلم الأقدار.
47 – إلا أن البحث عن المساواة لا يكون ذا معنى إلا في عالم متفرق وتعددي تنمي فيه كل دولة خصوصياتها وفضائلها وصفاتها. ومهما تكن قوتها فإن على كل أمة تقيس نفسها وتحددها بالنظر إلى الآخرين. ولا يفهم من هذا أن هناك بالضرورة نوعا من التبعية أو الضعف ولكن غاية ما في الأمر أنها معاينة تظهر أن الاستقلال هو من الميدان العلائقي ويبقى بالتالي من الأمور النسبية.
48 – في بحثها الدائم عن المطلق، تظهر السيادة نفسها كلا لا يتجزأ. ولكنها ليست كذلك في الممارسة الدولية. كما أن السيادة تخضع لضرورات الحاجة إلى الأمن في ظل هذه الممارسة، فالتعايش بين الأمم يفرض بالتالي تنازلات مشتركة.
تنبع المساواة بين الدول من مبدأ سيادتها، إلا أنها تتلاشى في واقع ممارستها: فالواقعية الدبلوماسية ترتبط بفعلية السلطة وبالعلاقة (Relation) كشرط للنظام الذي يعد من ضروراتها. وعلى غرار الطبيعة تماما، فإن الواقعية الدبلوماسية تنفر من الفراغ.
49 – إن حق تقرير المصير والسيادة لا يعنيان الانعزال. فليس من مصلحة أية دولة أن تقطع كل العلاقات مع الآخرين أو إنكار كل تعهد والتزام خارجي. فالتقدم والسلم عانيا دائما من رفض أو إبعاد بعض الأمم أو الثقافات من طرف المجموعة البشرية. ولكي نعرف بأنفسنا يجب يجب أن نلتقي. ومهما تكن إرادة الاستقلال قوية، فإنها لا تقوي لتصل إلى درجة رفض أو تدمير المبادئ التي تقوم عليها، أي على أساس التقبل المشترك للأمم المتحضرة بعضها بعضا.
50 – فالسيادة إذن شرط للدبلوماسية. شرط ضروري ولكنه غير كاف. فالتذرع بحرية ما، ليس له قيمة إلا عند العمل بها. كما أن كل أهلية يجب أن تنبني على الإرادة. وفيما يخص كل دولة فإن الاستقلال يعني إمكانها وإرادتها لتحديد غاياتها واستراتيجيتها هي نفسها بحرية، كما تحدد وتمارس السياسة التي تمليها عليها مصالحها كما تترجم حرية دولة من الدول في علاقاتها مع الدول الأخرى من خلال قدرتها ومن خلال عدم توقعها وتعذر تحديدها، ومن خلال تساؤلاتها وحتى في طرق تحديها وعبر قدرتها في التفاوض أو عبر حقها في التفويض.
51 – بالفعل فإن الاستقلال يحتمل بعض المخاطر التي تبتدئ من المنافسة والتنافس والصراع وكل أنواع الضغوط التي يمكن ممارستها على الدولة وعلى الأمة.فهو يزيد الضعفاء ضعفا والأقوياء قوة. غير أنه مبدأ أساسيا، إذ أن التنازل عن السيادة أو الحد منها لا يفترضان ضمنيا.
52 – إن للاستقلال كذلك مفهوما ذا طبيعة خلقية وأخلاقية. ففي ظل الدبلوماسية يلجأ الاستقلال في بعض الأحيان إلى الاحتماء بالحاجة إلى الأصالة الوطنية والاحترام، مهما تكن من جهة أخرى نقائص قوات الحلفاء أو حتى إيحائهم بالاستعلاء. ويصدر تكامل مبادئ السيادة والمساواة بين الدول بالضبط من إثبات واقع مؤداه أن تأكيدهما إنما تمليه الضرورة كمثل عليا، رغم أن هذه المثل هي منبع الكرامة والمسؤولية أي بعبارة أخرى الانضباط المتفق عليه. إلا أن الحقيقة تبين قلة تطابقها مع الصورة الحالية للعلاقات بين الدول.
53 – كتعبير عن فعلية ومسؤولية السلطة الداخلية فإن السيادة الدولية تحدد لها المعالم وترسم لها الحدود عندما تفرض عليها ضغوطا وإكراها ينبثقان من الوسط الخارجي. وهي التي تدفع الدول إلى التعاون فيما بينها وتخولها الصلاحية اللازمة لهذا الغرض وقبول الالتزام تجاه بعضها بالتعهدات الممضاة مع الأطراف الأخرى.
يفرض التعايش بين الدول الاعتدال واستقرار العلاقات بينها، إنه يتطلب بمعنى آخر الحد من التجاوزات ومن أنواع التعسف المرتبط بحجة الاستقلال.والاتجاه اليوم هو للانتشار الهائل لعدد المنظمات التي تؤثر ضوابطها في ممارسة السيادة وتحد منها، بصورة كبيرة في بعض الأحيان، كما يحصل مع المجموعات الأوروبية.
54 – من حق كل دولة أن تعدل عن كل الامتيازات التي تنبثق عن سيادتها أو عن جزء منها، كأن تمضي معاهدة تلحقها بفيدرالية أو بتجمع اتحادي. على أن الدول لا تنضوي تحت لواء هذه المعاهدة ببراءة وصفاء وحسن نوايا كما يبين الميل الدائم الذي تبديه الحكومات، كل واحدة على حدة، لتحديد بصورة تقديرية مدى اتساع الميدان الذي تخص به صلاحياتها رافضة بالتالي أي تدخل خارجي.
55 – إن العالم الذي يهيمن فيه الإعلام الاقتصادي والثقافي يناقض المفهوم التقليدي للدولة الذي يقوم أساسا على الاستقلال والمساواة والتجانس القانونيين للشركاء الوطنيين. فحرية كل أمة تبدو فيه نسبية مع وعيها بأصالتها وبالإجراءات التي تتخذها لتلبية حاجياتها بدون أن تسقط في ورطة التبعية.
يصبح الاستقلال في عصر العقلانية، إختيارا ومجهودا للتعامل والمتاجرة والاتصال بصلاحياتها الوطنية وبين متطلبات نظام دولي مستقر وتعددي وأن تخضع الالتزامات الخارجية لكل دولة لمقتضيات سياستها الداخلية. إن هذه المهمة صعبة في عهد تجنح فيه الدول إلى إنكار الالتزامات التي تعهدت بها بسبب أنشطة الدول القوية المهيمنة أو لأنها التزامات أمضتها أنظمة سابقة حكمتها.
لا يكون استقلال أية دولة تاما، كما أنه لم يعد من المعطيات الثابتة. غير أنه لا يكمن لأية أمة مسؤولة أن تعهد لأمة أخرى بأمر حماية مصالحها. وإذ حصل هذا الأمر فسيدخلها توافي ركب التبعية.
57 – لمدة طويلة، ساد تفسير لسيادة الدولة مفاده أنها منفصلة عن مسؤليتها بل أنها امتياز لها دون سواها. ويجب الاعتراف بأن مفاهيم القمع الجزائي أو التعويض المدني المعهودة في القانون الداخلي غير ملائمة في العلاقات الدولية. ففي غياب قاض خاص، فإن مفاهيم الخطأ والذنب والعمل المنافي للقانون أو الماس بالقانون تبقى دائما عرضة للاختلافات والاجتهادات المتضاربة. ولتمكينها من المتابعات ولأجل منحها آثارا يجب أن يكون القانون حصيلة لمعاينات موضوعية لا غبار عليها.
58 – من المعروف تقليديا أن ممارسة الدولة لصلاحيتها الخارجية لا تخضع لأية مراقبة من قبل هيأتها القضائية الداخلية سواء تعلق الأمر بعلاقاتها مع الدول الأجنبية أو مشاركتها في المنظمات الدولية أو احتمالا قيادة العمليات الحربية وما ينجم عنها من أضرار تتسبب فيها.
59 - السياسة الخارجية للدولة تظل رغم ذلك تعبيرا عن صلاحيتها الأساسية مما يحملها مسؤولية الأعمال التي قامت بها بحرية في علاقاتها مع الدول الأخرى. والأمر في هذه الحالة مسألة كرامة يحصل فهمها من كل حكومة ويحملها ضميرها على الاحترام المتبادل بين الأمم .
بغض النظر عن نوعيتها، فإن عجم ممارسة المنظمات الدولية لمسؤوليات أصيلة مباشرة يحرمها من الارتقاء إلى مستوى الفاعلين الدوليين المهمين والأساسيين في النظام الدولي.
60 – إن أقدام الدولة المستقلة على خلق التزام معين يقع على عاتقها، يحتم عليها إصلاح الضرر المترتب عنه والذي قد تلحقه بدول أخرى. ولا يستشف من هذا المبدأ القانوني غياب المسؤولية من غير حدوث الضرر بين الدول. إذ أن كل عمل تقوم بع دولة معينة تجاه دول أخرى يولد آثارا في علاقاتهما المشتركة: فسلوكها في هذا المجال لا يمكن أن يكون مجانيا إنه يلزمها. وحتى وإن نبع مبدئيا من سلطة تقديرية، فهذا لا يعفيها من الآثار المترتبة عنه. كما لا يمكن لأية حكومة أن تهمل المسؤوليات التي تنشأ في مثل هذه الحالات أو تتنصل منها. إذ يفترض مبدئيا أن سلطة الدولة واعية بمسؤولياتها تجاه الآثار التي تنجم عنها.
61 - وبموازاة ذلك، فإن من حق الدولة أن تهتم بالأقوال والأفعال التي من شأنها أن تؤثر في حريتها أو تخدش كرامتها. ومن شأن مثل هذه المعاينة أن تساهم في تدعيم العرف في جميع ميادين الدبلوماسية. إلا أن هذا الأمر أصبح هينا، كما أن لضعف بعض الحكومات وعدم قدرتها على حماية نفسها أو عجزها عن قمع كل ما يهينها من دول أخرى (مثل المساس بمصالحها أو بممثليها أو برعاياها)? قد ساهم في هشاشة هذا العرف. ويعزز هذا الضعف الرفض أو التردد في القبول الذي تبديه الدول الحديثة العهد بالاستقلال أو ترددها في تحمل تعهدات أو تنظيمات ترى أنها لم تنتج عن قبولها بل عادت إليها عن طريق وراثة تشكك فيها.
62 – تبدو الأعراف الدولية محترمة أكثر بالتلقائية والتوافق، إلى درجة أن كل دولة تقتنع بفائدتها. فآثارها لا تنتج في آخر الأمر إلا من ضغوط الواقع. وبعبارة أخرى فإنها حصيلة للأفعال المتبادلة ولتوافق الآراء بين الدول.
نشأ نظام العلاقات وتدعم من خلال امتحانات الزمن المتعاقبة، فهو يعبر عن مسؤولياتها المتقاسمة والمشتركة، وهكذا فإن الاتفاق الدبلوماسي يخلق التزامات بين الأطراف المتعاقدة تترجم احترامها أو خرقها لمواقف واعية ومسؤولة. والمرجو هو أن يأخذ تطور القانون الدولي اتجاها يعمل من أجل استقرار وتحسن الروابط بين الدول.
63 – تقع على عاتق الدول مهمة تقدير وجود وامتداد واجباتها تجاه الآخرين. فقد يحدث أن تقوم دولة بمنح تعويضات عن أضرار تسببت فيها عن طريق سلوك صدر منها أو من ممثليها أو من رعاياها، وذلك حرصا منها على حفظ مستوى علاقاتها مع دولة أخرى تضررت، أو من أجل تجنب الرد منها، أو خشية أن تستعمل ضدها القوة أو لغرض المحافظة على مصداقيتها. غير أن تناسب التنازلات المقدمة والإعلان عنها يكون في العادة نابعا من ميزان القوة أكثر مما يحصل من جنس العمل سياسيا بالأساس، وإن كانت تجلياتها الخارجية قانونية في ظاهرها وتتبعها تعويضات مالية.
64 – وجود هذه الصلاحيات يدفع بالضرورة كل دولة أن تتساءل عن استعمالها من طرف شركائها. ولا يمكن لأي كان أن لا يعبأ بمواقف الآخرين. ففي عالم يدفع فيه الجوار والمبادلات والتنافس الشعوب إلى الحيطة والريبة، فإن من واجب كل فاعل من الفاعلين في الساحة الدولية أن يأخذ في الحسبان سلوك الآخرين، وليس ذلك لأنه يحمل مخاطر تتربص به بل لأنه يمنحه في الغالب فرصة أداء وممارسة سيادته كما يفترض فيه القدرة على مباشرتها، مع الآثار المترتبة عنها.
65 – أحدث المفهوم المطلق للسيادة أضارا كبيرة بهذا المفهوم نفسه، إن على المستوى الداخلي أو على صعيد النظام الدولي، أضرار لا تزال إلى اليوم، ولم يحصل تغيير إلا في استبدال سيادة الأمراء بسيادة الشعوب، كما فتحت السبيل إلى بروز مبدأ الجنسيات. وفي مقابل ذلك، فإن تفاقم مميزات الحرب وامتدادها قد ألحق أضرار جسيمة بالعديد من الشعوب الصغيرة المسالمة. ولن يحصل أي تحسن بصفة دائمة في الوسط الدولي من دون أن تقبل ضوابط جماعية وتنفذ.
لا يمكن للدولة اليوم، باعتبارها شكل متطور للتنظيم الاجتماعي، أن تعمل في سبيل تقدم الحضارة إلا إذا وسعت من مهمتها الأولى المتمثلة في العدل والنظام لتشمل علاقاتها الخارجية.
66 – يفرض التعايش بين الدول المتمتعة بالسيادة على الأقل وضع حدود تعسف نابع من سيادتها إذ تعذر القضاء التام عليه. كما يفرض الاعتدال والاستقرار في العلاقات بين الدول. إنه يلزم حكوماتها بالتالي على الاهتمام بموضوع استعمال صلاحياتها الخارجية. وكما أعلن شارل ديغول فإن الاستقلال التام ليس في الحقيقة ملكا لأحد. كما يجب أن يخضع الاستقلال اليوم لانضباط النظام الدولي الذي يؤسس أولى مراحله على التقدير الذي تبديه هذه الحكومات نفسها تجاه بعضها البعض.
67 – في مقابل فشل الأمن الجماعي تبرز تبعيات متبادلة بين الدول بعضها للبعض. وستنشأ ربما مطابقات وانسجامات دولية كما يحدث في أوروبا الغربية، إذ أن كل طرف فيها يكون شرطا لبقاء الآخرين وعنصرا لحماية المجموعة برمتها ضد المخاطر التي تتربص بها، في آن واحد. كما أن التفكير الدبلوماسي أصبح تأملا في النظام أو بالأحرى في الفوضى السائدة في العالم.
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma