المطلب الأول: القياس.
أولا: القياس في اللغة والإصطلاح:
القياس في اللغة: التقدير والتسوية، ومنه قول العرب فلان لا يقاس إلى فلان في كرمه وجوده، ويقولون: قس هذا الثوب بهذا لتعرف تساويهما في الجودة والحسن.
وفي الإصطلاح: عرفه الباجي بقوله: حمل أحد المعلومين على الآخر في إثبات حكم، أو إسقاطه بأمر جامع بينهما.
وأقرب تعريف للقياس هو ما أورده أبو عبد الله الشريف التلمساني بقوله «إلحاق صورة مجهولة الحكم، بصورة معلومة الحكم، لأجل أمر جامع بينهما يقتضي ذلك الحكم».
ومن خلال التعريفين يستفاد أن القياس ينبني على عملية إلحاق واقعة-غير منصوص على حكمها وتسمى الفرع- بواقعة أخرى لها حكم معين-تسمى بالأصل- لمساوتها لها في علة الحكم.
ثانيا: أركان القياس.
مما سبق يتضح أن أركان القياس أربعة هي:
أ- الأصل: وهو ما ورد نص بحكمه ويسمى المقيس عليه، أو هو الواقعة التي ورد التنصيص على حكمها.
ب- الفرع: وهو ما لم يرد نص بحكمه، ويسمى المقيس أو هو الحادثة التي لا حكم لها من الشرع.
ج- الحكم: وهي ما ثبت للفرع بعد ثبوته للأصل وهو نتيجة القياس.
د- العلة: وهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع، وبناءا على وجوده في الفرع يعطي حكم الأصل.
ثالثا: قضايا إستعمل فيها القياس.
1- من ذلك مبايعة سيدنا أبي بكر الصديق للخلافة، قياسا على إمامته للصلاة إذ صلى إماما بالنبي (ص) وبأصحابه رضي الله عنهم.
2- من ذلك قياس النبيذ على الخمر في التحريم.
3- ومن ذلك قتل الموصى له للموصي قياسا على قتل الوارث لمورثه.
رابعا: حجية القياس.
القياس مقرر بالقرآن والسنة، وعمل الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
- أما القرآن فيدل عليه قوله تعالى: «فإعتبروا يا أولي الأبصار» الحشر 2، قال الإمام الباجي رحمه الله: والإعتبار في اللغة هو تمثيل الشيء بالشيء، وإجراء حكمه عليه.
وقال تعالى: «يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا» النساء 8.
وليس الرد إلى الله وإلى الرسول إلا بتعريف الإمارات الدالة منهما على ما يرميان إليه، وذلك بتعليل أحكامهما والبناء عليها، وذلك هو القياس.
- أما السنة، فالإستدلال بها على حجية القياس كثير،فمن ذلك قوله (ص): «مثل المؤمن مثل الزرع لاتزال الريح تميله، ولايزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة كمثل شجرة الأرز، لاتهتز حتى تستحصد» رواه مسلم.
وقوله (ص) للذي ولد له ولد فأنكر لونه: «هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها، قال: حمر، قال: هل فيها من أورق (أورق: أبيض مائل إلى السواد (رمادي)) قال: نعم، قال: فأنى ترى ذلك؟ قال: عرق نزعه (العرق الأصل من النسب، ومعنى نزعه أشبهه وإجتذبه أي أن أحد أجداده كان في لونه، قال: فلعل هذا عرق نزعه» متفق عليه، إلى غير ذلك من الأحاديث والوقائع التي يستفاد منها أصل القياس.
- أما عمل الصحابة رضوان الله عليهم فأكثر من أن يحصى، قال إبن عبد البر القرطبي رحمه الله: «وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من إجتهاد الرأي والقول بالقياس على الأصل عند عدمها ما يطول ذكره».
ومن ذلك قياس سيدنا علي رضي الله عنه حد شرب الخمر على حد القذف لأن الشرب قد يؤدي إليه، جاء في الموطأ: أن عمر بن الخطاب إستشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى إفترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين».
وقياس الجد على الأب في الأب في حجب الإخوة، وذلك في مذهب أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، وقياس الجدة للأب على الجدة للأم في ميراثها السدس.
خامسا: دور القياس في التشريع.
قال إبن جزي في القياس: وهو أكمل الرأي ومجال الإجتهاد، وبه ثبت أكثر الأحكام، فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة، ومواضع الإجماع معدودة، والوقائع غير محصورة، وله الدور الأكبر في التعرف على الحكم الشرعي لكل واقعة مستجدة، وحادثة طارئة، وفي مجال القياس يلتقي العقل والنقل ويظهر أثر التدبر في معرفة العلل والمقاصد، وإجراء طرق الفهم والإستنباط لتظهر نعمة العقل الذي به تميز الإنسان، وشرفه خالقه سبحانه في عالم الأكوان، ولتبرز مجالات الإختبار والإبتلاء في الإجتهاد بالأفكار والأعمال وله شاء الله العليم الحكيم لجعل لكل واقعة حكما معينا ولكن ليظهر مناط التكليف في التوفيق بين العقل الإنساني وبين الشرع الرباني الذي أنزله الله سبحانه ليعمل الجميع في دائرته. كذلك كانت عملية القياس متعلقة بالإجتهاد وللإجتهاد أجر ولو لم يصادف الصواب، غاية ما هنالك أن يكون مستعمل القياس أخذ بمعاقد الشرع، مطلعا على نصوصه ومداركه، له من أدوات الإجتهاد ما يمكن من النظر الفسيح حتى يكون قياسه صحيحا، ومآله محمودا.
الإجماع
إن الحاجة الماسة إلى الحكم على القضايا الجديدة، في عصر الصحابة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، هي التي كانت سببا في ولادة أو نشوء فكرة الإجماع عن طريق الإجتهاد الجماعي، إحتياطا في الدين، وتوزيعا للمسؤولية على جماعة المجتهدين خشية تعثر الإجتهاد الفردي، أو وقوع المجتهد من الصحابة في الخطأ، بالرغم من رفع الحرج والإثم عن الخطأ في الإجتهاد، وتشجيعا على التصدي للفتوى، بعد التثبت والتحري المطلوب .
ويعتبر الإجماع الدليل الذي يلي كلا من القرآن والسنة في القوة والإحتجاج، حيث إنه في مرتبة تلي مباشرة المصدرين الأساسيين الأصليين، وهو يعتمد عليهما.
ولتناول الإجماع كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي نتعرض لتعريفه، مستنده وأركانه (المطلب الأول) ثم نتطرق إلى أنواعه وحجيته (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تعريف الإجماع، مستنده وأركانه.
الفقرة الأولى: تعريف الإجماع ومستنده.
أولا: تعريف الإجماع:
الإجماع في اللغة يطلق على أحد معنيين:
العزم على الشيء والتصميم عليه، يقال: أجمع فلان على الأمر أي عزم عليه، ومنه قوله تعالى: «فأجمعوا أمركم وشركاءكم» أي أعزموا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» أي يعزم.
وثانيهما، الإتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا أي إتفقوا عليه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: «فلما ذهبوا به، وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب» .
ويقصد بالإجماع في إصطلاح الفقهاء وعلماء الأصول إتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام على حكم شرعي .
فإذا وقعت حادثة وعرضت على جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية وقت حدوثها وإتفقوا على حكم فيها، فإن هذا الإتفاق يسمى إجماعا، وإعتبر إجماعهم على حكم واحد فيها دليلا على أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي في الواقعة .
وهكذا فجمهور الفقهاء يشترطون لتحقيق الإجماع أن يتفق جميع المجتهدين على هذا الحكم، ومن هنا طرح إشكالية إمكان الإجماع وهل وقع فعلا؟
فقد إدعى البعض أن الإجماع بشروطه المذكورة في التعريف لا يمكن وقوعه لأن المجتهدين متفرقون ولا سبيل إلى معرفتهم ولا معرفة آرائهم، ثم يقولون ولهذا لم يقع الإجماع فيما مضى.
وقال الأكثرون أن الإجماع بشروطه ممكن الوقوع وقد وقع فعلا فيما مضى، وإن كانت المسألة تحتاج إلى تفصيل ففي عصر الخلفاء الراشدين لاسيما في عصر أبي بكر وعمر، حيث كان المجتهدون معروفين ومستقرهم في المدينة والرجوع إليهم لمعرفة آرائهم ميسور، ففي هذا العصر وقع الإجماع فعلا وحصلت إجماعات كثيرة منها إجماعهم على قتال مانعي الزكاة، وجمع القرآن، أما بعد هذا العصر حيث تفرق المجتهدون في الأقطار وكثر عددهم فمن العسير القول بوقوع الإجماع، وأقصى ما يستطاع قوله إن أحكاما إجتهادية إشتهرت ولم يعرف لها مخالف، ولكن لا يخفى أن عدم معرفة المخالف لا يدل على عدم وجود المخالف، وإن كان يرى البعض أن إستحالة وجود الإجماع نسبية لعدم إمكانية جمع علماء الدنيا، والذي هو في حد ذاته ليس مستحيلا إستحالة مطلقة.
ثانيا: مستند الإجماع.
يرى جمهور الأصوليون أن الإجماع لابد له من دليل يرجع إليه المجمعون وهذا الدليل يسمى مستند أو سند الإجماع، وهو قد يكون نصا من كتاب أو سنة، وقد يكون قياسا.
فلابد إذن، أن يكون إجماع المجتهدين على دليل لئلا تجتمع الأمة على خطأ، لأن غير المجتهدين تبع للمجتهدين فإذا وقع المجتهدون في الخطأ وقعت الأمة في الخطأ وهذا منفي عنها بنص الأحاديث ، وفوق ذلك فإن الغفلة التي تؤدي إلى الخطأ قد تكون في بعض المجتهدين ولا تكون عامتهم، يقول الشافعي: «إنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن أن يكون فيها كافة غفلة من معنى كتاب ولا سنة، ولا قياس إن شاء الله» .
فمن أمثلة الإجماع المستند إلى كتاب الله تعالى: إجماع المسلمين على تحريم نكاح الجدات مهما علون، ومن أية جهة كن، وكذلك تحريم التزويج ببنات الأولاد ومهما نزلت درجتهن، وذلك إستنادا إلى قوله عز وجل: «حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم» ، فالمراد بالأمهات في هذه الآية الكريمة الأصول من النساء مهما علون، والجدة كأصل كالأمهات، كما أن المراد بالبنات الفروع من النساء.
ومن الإجماع المستند إلى السنة النبوية الشريفة إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على إعطاء الجدة السدس في الميراث، و الذي جاء بناء على ما رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة من أنه عليه الصلاة والسلام أعطاها السدس.
وقد يكون الإجماع إستنادا إلى القياس، كما في إجماع المسلمين على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قياسا على إمامته لهم في الصلاة أثناء مرض الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد يكون الإجماع مستندا على المصلحة عند من يقول بحجيتها، وقد وقع ذلك في عهد الصحابة، فعمر بن الخطاب أشار على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن في مصحف واحد، والذي قبل بعد تردد كبير حيث قال له: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله (ص)؟ فقال عمر: إنه والله خير ومصلحة للإسلام، وقد وافق بقية الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد إستنادا إلى مصلحة الإسلام والمسلمين في ذلك.
ومثله أيضا زيادة أذان ثالث لصلاة الجمعة في عهد عثمان، لإعلام الناس بالصلاة، وتنبيه كثير من المسلمين القاطنين في منازل بعيدة عن المسجد، حتى لا تفوتهم الصلاة، وكان مستندهم هو المصلحة ودفع المفسدة المترتبة على بقاء الأمر على ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
الفقرة الثانية: أركان الإجماع.
يتبين من تعريف الإجماع المشار إليه آنفا ضرورة توافر الأركان الأربعة التالية:
أولا: ركن الإجماع أو إتفاق جميع المجتهدين.
لكي نكون إزاء إجماع بإعتباره مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي لابد من موافقة جميع المجتهدين، فإذا خالف أحدهم لم ينعقد الإجماع، كما أنه لا يكفي صدور الإجماع من مجتهد واحد إذا إنفرد وجوده في زمن ما، لأن الإتفاق لابد فيه من متعدد، وقد يخطئ المجتهد حينئذ، ومن هنا لا يكون رأيه حجة قطعية كما هو شأن الإجماع، لأن المنفي عند الخطأ هو الإجماع، وهذا رأي جمهور الأصوليين في أنه ليس حجة ولا إجماعا، لأنه رأي فردي يجوز أن يخطئ.
ومن جهة ثانية لابد وأن يكون الإجماع صادرا عن مجتهدي المسلمين، أي من المسلمين الذين تتوافر فيهم شروط الإجتهاد كما حددها الفقهاء .
ثانيا: أن يكون المجمعون من أمة محمد (ص).
يشترط أن يكون أهل الإجماع -الذي هو محل البحث- من المسلمين، وهم: كل من أجاب دعوة رسول الله (ص) وآمن بما جاء به. والعلماء إتفقوا على أنه لا عبرة بالكافر في هذا الموضوع، لأن الكافر غير مقبول في مسائل ديننا، فهو متهم بقوله بسبب مخالفته في الدين، ومن ناحية ثانية، فإن الأمة الإسلامية قد إختصها الله عز وجل بالعصمة من الخطأ عند الإتفاق، ولم يشاركها في ذلك أمة أخرى حسبما جاءت بذلك الأدلة .
ثالثا: إتفاق المجتهدين بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.
إتفق جمهور الفقهاء على أن لا عبرة بالإجماع في عصره (ص)، لأنه إذا وافق الرسول (ص) المجتمعين، فالحجة هو قوله (ص)، وإن خالفهم فلا عبرة بما أجمعوا عليه، لأنه صاحب التشريع، وعليه لا ينعقد في عهد الرسول (ص).
ثم إن الرسول (ص) إذا وافق الصحابة على حكم كان الحكم ثابتا بالسنة لا بالإجماع، وإن خالفهم سقط إتفاقهم، ولا يكون حينئذ حكما شرعيا .
رابعا: إتفاق المجتهدين في عصر من العصور.
ليس المراد بداهة جميع مجتهدي الأمة في جميع العصور إلى يوم القيامة، وإلا أدى إلى عدم تحقق الإجماع أصلا، والمراد بالعصر: هو عصر من كان من أهل الإجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة الجديدة التي تتطلب حكما شرعيا فيها وعليه فلا يعقد الإجماع بمن صار مجتهدا بعد حدوث تلك المسألة، حتى ولو كان المجتهدون الذين أصدروا حكما فيها مازالوا على قيد الحياة، وإنما متى إتفق المجتهدون في عصر من العصور على حكم حادثة، إنعقد الإجماع وصار واجب الإتباع، في اللحظة التي صدر فيها الحكم.
خامسا: أن يقع الإجماع على حكم شرعي.
ينبغي أن يكون موضوع الإتفاق هو حكم الشريعة الإسلامية في المسألة المعروضة فلا يعتبر إجماعا بهذا المعنى إتفاق علماء اللغة أو المنطق أو غيرهم على قاعدة من القواعد ككون الفاء للتعقيب، أو القضايا العقلية كحدوث العالم، قال إمام الحرمين في البرهان: «ولا أثر للإجماع في العقليات، فإن المشجع فيها الأدلة القطعية، فإذا إنتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق».
المطلب الثاني: أنواع الإجماع وحجيته.
الفقرة الأولى: أنواع الإجماع.
الإجماع بحسب طريقة تكوينه نوعان: إجماع صريح وآخر سكوتي.
أولا: الإجماع الصريح.
ويطلق عليه أيضا الإجماع النطقي أو الإجماع القولي، وهو أن ينفق جميع مجتهدي العصر على حكم واقعة، بإبداء كل منهم رأيه صراحة بفتوى أو قضاء، وهذا قد يكون بإجتماعهم في مكان واحد، ثم بحثهم للواقعة أو النازلة المعروضة وتصريح كل مجتهد برأيه فيها، كما قد يتحقق الإجماع الصريح عند عدم تيسر تواجد كل المجتهدين المسلمين في مكان واحد، بأن يعبر كل منهم عن رأيه صراحة في المسألة محل الإجتهاد بأية طريقة من الطرق، ثم تجمع هذه الآراء المتفرقة، ويتكون من إتفاقها إجماعا.
ويعتبر الإجماع الصريح، عند الجمهور، حجة قطعية في ثبوت الأحكام الشرعية.
ثانيا: الإجماع السكوتي أو الضمني.
وهو أن يبدي بعض المجتهدين رأيه في مسألة ويعلم بها الباقون فيسكتون ولا يصدر عنهم صراحة إعتراف ولا إنكار ، ومثاله ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه أفتى بوجوب الزكاة عن الأموال المدينة على الدائن، وسمع بهذه الفتوى الصحابة رضوان الله عليهم، وسكتوا، فإن سكوتهم هذا يعد من قبيل الموافقة، وبالتالي يعتبر أن هناك إجماعا سكوتيا على الحكم القاضي بوجوب الزكاة على الأموال المدينة.
وإذا كان الإجماع الصريح يعد بإتفاق الفقهاء حجة قطعية في ثبوت الأحكام الشرعية، فإن الإجماع السكوتي إختلف فيه، على إعتبار أن الساكت من المجتهدين لا جزم بأنه موافق، فلا جزم بتحقق الإتفاق وإنعقاد الإجماع، لذلك ذهب البعض إلى أنه ليس بحجة ، وأنه لا يخرج عن كونه رأي بعض الأفراد من المجتهدين، ذلك أنه من شروط الإجماع أن يتفق جميع المجتهدين على الحكم، وهذا الشرط لم يتحقق في الإجماع السكوتي، لأن بعض المجتهدين سكتوا ولم يدلوا برأي، ولا يصح أن يفسر سكوتهم على أنه موافقة منهم لما أبدي من رأي، إذ السكوت قد ينشأ في بعض الأحيان عن أسباب أخرى غير الموافقة، كالخوف من القائل أو المهابة منه، أو لأنه يرى عدم وجوب الإنكار على القائل، لأن كل مجتهد مصيب.
أما القائلون بحجية الإجماع السكوتي، وهم الحنفية والحنابلة، فقد إشترطوا في توافر هذا الإجماع:
1- أن يكون السكوت مجردا عن علامة الرضا أو الكراهة.
2- وأن ينتشر الرأي المقول به من مجتهد بين أهل العصر.
3- وتمضي مدة كافية للتأمل والبحث في المسألة.
4- وأن تكون المسألة إجتهادية.
5- وأن تنتفي الموانع التي تمنع من إعتبار هذا السكوت موافقة كالخوف من سلطان جائر، أو عدم مضي مدة تكفي للبحث، أو أن يكون الساكت ممن يرون أن كل مجتهد مصيب، فلا ينكر ما يقوله غيره، لأنه من مواضع الإجتهاد، أو يعلم أنه لو أنكر لا يلتفت إليه، ونحو ذلك.
الفقرة الثانية: حجية الإجماع.
الإجماع حجة قطعية لا يسع أحدا أن يجتهد على خلافه إذا تحققت بشروطه، فهو إذن يفيد الحكم قطعا، بعد أن كان هذا الحكم ظنيا قبل تحققه، وعلى المكلف أن يمتثل لهذا الحكم كما يمتثل للحكم الثابت بنص الكتاب والسنة ، وهذا سواء تعلق الأمر بالإجماع الصريح أو السكوتي، لأن هذا الأخير وإن كان محل إختلاف الفقهاء فإنه إذا توافرت له شروط الصحة المتطلبة يعتبر شرعية عند جمهور الفقهاء .
وقد إستدل الجمهور على حجية الإجماع بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والعقل عند جمهور الفقهاء.
أولا: الدليل من الكتاب.
إن الأصل في حجية الإجماع من الكتاب قوله سبحانه وتعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا» وهذه الآية التي تمسك بها الشافعي على حجية الإجماع في "الرسالة" ووجه الإستدلال بها أن سبيل المؤمنين هو ما يتفقون عليه، ويجمعون على الأخذ به، فمتى تحقق إجماعهم على حكم شرعي، فإن هذا الإجماع يحرم إتباع سبيل غيره فهذا الأخير كمشاقة الله ورسوله، إذ جعل سبحانه وتعالى، جزاءهما واحدا، وهو الوعيد حيث قال: «نوله ما تولى ونصله جهنم».
ثانيا: الدليل من السنة.
وهو أقوى الأدلة كما قال الغزالي، فقد وردت أحاديث عن رسول الله (ص) تدل على عصمة الأمة من الخطأ، وإشتهر ذلك على لسان جماعة من الصحابة المرموقين الموثوقين كعمر إبن مسعود وأبي هريرة وغيرهم ممن يطول ذكرهم، حتى إن كثرة الأحاديث بألفاظها المختلفة، وإن لم تتواثر آحادها، لكن القدر المشترك بينها، وهو عصمة الأمة من الخطأ متواثر لوجوده في هذه الأخبار الكثيرة.
هذه الأحاديث هي: «لا تجتمع أمتي على خطأ»، «يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار»، وقوله (ص): «من فارق الجماعة بثرا، فمات إلا مات ميتة جاهلية».
ثالثا: عمل الصحابة.
من الثابت أن الصحابة رضوان الله عليهم لجأوا إلى الإجماع في الكثير من الحوادث والمسائل التي لم يجدوا فيها حكما شرعيا من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن الأمثلة على ذلك إجماعهم على تولي أبي بكر الصديق الخلافة بعد وفاة الرسول (ص) وإجماعهم على جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، وإجماعهم على محاربة أهل الردة عند إمتناعهم عن إعطاء الزكاة إلى غير ذلك من الأمور التي حصل فيها إجماع الصحابة وإتفاقهم.
أولا: القياس في اللغة والإصطلاح:
القياس في اللغة: التقدير والتسوية، ومنه قول العرب فلان لا يقاس إلى فلان في كرمه وجوده، ويقولون: قس هذا الثوب بهذا لتعرف تساويهما في الجودة والحسن.
وفي الإصطلاح: عرفه الباجي بقوله: حمل أحد المعلومين على الآخر في إثبات حكم، أو إسقاطه بأمر جامع بينهما.
وأقرب تعريف للقياس هو ما أورده أبو عبد الله الشريف التلمساني بقوله «إلحاق صورة مجهولة الحكم، بصورة معلومة الحكم، لأجل أمر جامع بينهما يقتضي ذلك الحكم».
ومن خلال التعريفين يستفاد أن القياس ينبني على عملية إلحاق واقعة-غير منصوص على حكمها وتسمى الفرع- بواقعة أخرى لها حكم معين-تسمى بالأصل- لمساوتها لها في علة الحكم.
ثانيا: أركان القياس.
مما سبق يتضح أن أركان القياس أربعة هي:
أ- الأصل: وهو ما ورد نص بحكمه ويسمى المقيس عليه، أو هو الواقعة التي ورد التنصيص على حكمها.
ب- الفرع: وهو ما لم يرد نص بحكمه، ويسمى المقيس أو هو الحادثة التي لا حكم لها من الشرع.
ج- الحكم: وهي ما ثبت للفرع بعد ثبوته للأصل وهو نتيجة القياس.
د- العلة: وهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع، وبناءا على وجوده في الفرع يعطي حكم الأصل.
ثالثا: قضايا إستعمل فيها القياس.
1- من ذلك مبايعة سيدنا أبي بكر الصديق للخلافة، قياسا على إمامته للصلاة إذ صلى إماما بالنبي (ص) وبأصحابه رضي الله عنهم.
2- من ذلك قياس النبيذ على الخمر في التحريم.
3- ومن ذلك قتل الموصى له للموصي قياسا على قتل الوارث لمورثه.
رابعا: حجية القياس.
القياس مقرر بالقرآن والسنة، وعمل الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
- أما القرآن فيدل عليه قوله تعالى: «فإعتبروا يا أولي الأبصار» الحشر 2، قال الإمام الباجي رحمه الله: والإعتبار في اللغة هو تمثيل الشيء بالشيء، وإجراء حكمه عليه.
وقال تعالى: «يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا» النساء 8.
وليس الرد إلى الله وإلى الرسول إلا بتعريف الإمارات الدالة منهما على ما يرميان إليه، وذلك بتعليل أحكامهما والبناء عليها، وذلك هو القياس.
- أما السنة، فالإستدلال بها على حجية القياس كثير،فمن ذلك قوله (ص): «مثل المؤمن مثل الزرع لاتزال الريح تميله، ولايزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة كمثل شجرة الأرز، لاتهتز حتى تستحصد» رواه مسلم.
وقوله (ص) للذي ولد له ولد فأنكر لونه: «هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها، قال: حمر، قال: هل فيها من أورق (أورق: أبيض مائل إلى السواد (رمادي)) قال: نعم، قال: فأنى ترى ذلك؟ قال: عرق نزعه (العرق الأصل من النسب، ومعنى نزعه أشبهه وإجتذبه أي أن أحد أجداده كان في لونه، قال: فلعل هذا عرق نزعه» متفق عليه، إلى غير ذلك من الأحاديث والوقائع التي يستفاد منها أصل القياس.
- أما عمل الصحابة رضوان الله عليهم فأكثر من أن يحصى، قال إبن عبد البر القرطبي رحمه الله: «وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من إجتهاد الرأي والقول بالقياس على الأصل عند عدمها ما يطول ذكره».
ومن ذلك قياس سيدنا علي رضي الله عنه حد شرب الخمر على حد القذف لأن الشرب قد يؤدي إليه، جاء في الموطأ: أن عمر بن الخطاب إستشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى إفترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين».
وقياس الجد على الأب في الأب في حجب الإخوة، وذلك في مذهب أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، وقياس الجدة للأب على الجدة للأم في ميراثها السدس.
خامسا: دور القياس في التشريع.
قال إبن جزي في القياس: وهو أكمل الرأي ومجال الإجتهاد، وبه ثبت أكثر الأحكام، فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة، ومواضع الإجماع معدودة، والوقائع غير محصورة، وله الدور الأكبر في التعرف على الحكم الشرعي لكل واقعة مستجدة، وحادثة طارئة، وفي مجال القياس يلتقي العقل والنقل ويظهر أثر التدبر في معرفة العلل والمقاصد، وإجراء طرق الفهم والإستنباط لتظهر نعمة العقل الذي به تميز الإنسان، وشرفه خالقه سبحانه في عالم الأكوان، ولتبرز مجالات الإختبار والإبتلاء في الإجتهاد بالأفكار والأعمال وله شاء الله العليم الحكيم لجعل لكل واقعة حكما معينا ولكن ليظهر مناط التكليف في التوفيق بين العقل الإنساني وبين الشرع الرباني الذي أنزله الله سبحانه ليعمل الجميع في دائرته. كذلك كانت عملية القياس متعلقة بالإجتهاد وللإجتهاد أجر ولو لم يصادف الصواب، غاية ما هنالك أن يكون مستعمل القياس أخذ بمعاقد الشرع، مطلعا على نصوصه ومداركه، له من أدوات الإجتهاد ما يمكن من النظر الفسيح حتى يكون قياسه صحيحا، ومآله محمودا.
الإجماع
إن الحاجة الماسة إلى الحكم على القضايا الجديدة، في عصر الصحابة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، هي التي كانت سببا في ولادة أو نشوء فكرة الإجماع عن طريق الإجتهاد الجماعي، إحتياطا في الدين، وتوزيعا للمسؤولية على جماعة المجتهدين خشية تعثر الإجتهاد الفردي، أو وقوع المجتهد من الصحابة في الخطأ، بالرغم من رفع الحرج والإثم عن الخطأ في الإجتهاد، وتشجيعا على التصدي للفتوى، بعد التثبت والتحري المطلوب .
ويعتبر الإجماع الدليل الذي يلي كلا من القرآن والسنة في القوة والإحتجاج، حيث إنه في مرتبة تلي مباشرة المصدرين الأساسيين الأصليين، وهو يعتمد عليهما.
ولتناول الإجماع كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي نتعرض لتعريفه، مستنده وأركانه (المطلب الأول) ثم نتطرق إلى أنواعه وحجيته (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تعريف الإجماع، مستنده وأركانه.
الفقرة الأولى: تعريف الإجماع ومستنده.
أولا: تعريف الإجماع:
الإجماع في اللغة يطلق على أحد معنيين:
العزم على الشيء والتصميم عليه، يقال: أجمع فلان على الأمر أي عزم عليه، ومنه قوله تعالى: «فأجمعوا أمركم وشركاءكم» أي أعزموا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» أي يعزم.
وثانيهما، الإتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا أي إتفقوا عليه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: «فلما ذهبوا به، وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب» .
ويقصد بالإجماع في إصطلاح الفقهاء وعلماء الأصول إتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام على حكم شرعي .
فإذا وقعت حادثة وعرضت على جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية وقت حدوثها وإتفقوا على حكم فيها، فإن هذا الإتفاق يسمى إجماعا، وإعتبر إجماعهم على حكم واحد فيها دليلا على أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي في الواقعة .
وهكذا فجمهور الفقهاء يشترطون لتحقيق الإجماع أن يتفق جميع المجتهدين على هذا الحكم، ومن هنا طرح إشكالية إمكان الإجماع وهل وقع فعلا؟
فقد إدعى البعض أن الإجماع بشروطه المذكورة في التعريف لا يمكن وقوعه لأن المجتهدين متفرقون ولا سبيل إلى معرفتهم ولا معرفة آرائهم، ثم يقولون ولهذا لم يقع الإجماع فيما مضى.
وقال الأكثرون أن الإجماع بشروطه ممكن الوقوع وقد وقع فعلا فيما مضى، وإن كانت المسألة تحتاج إلى تفصيل ففي عصر الخلفاء الراشدين لاسيما في عصر أبي بكر وعمر، حيث كان المجتهدون معروفين ومستقرهم في المدينة والرجوع إليهم لمعرفة آرائهم ميسور، ففي هذا العصر وقع الإجماع فعلا وحصلت إجماعات كثيرة منها إجماعهم على قتال مانعي الزكاة، وجمع القرآن، أما بعد هذا العصر حيث تفرق المجتهدون في الأقطار وكثر عددهم فمن العسير القول بوقوع الإجماع، وأقصى ما يستطاع قوله إن أحكاما إجتهادية إشتهرت ولم يعرف لها مخالف، ولكن لا يخفى أن عدم معرفة المخالف لا يدل على عدم وجود المخالف، وإن كان يرى البعض أن إستحالة وجود الإجماع نسبية لعدم إمكانية جمع علماء الدنيا، والذي هو في حد ذاته ليس مستحيلا إستحالة مطلقة.
ثانيا: مستند الإجماع.
يرى جمهور الأصوليون أن الإجماع لابد له من دليل يرجع إليه المجمعون وهذا الدليل يسمى مستند أو سند الإجماع، وهو قد يكون نصا من كتاب أو سنة، وقد يكون قياسا.
فلابد إذن، أن يكون إجماع المجتهدين على دليل لئلا تجتمع الأمة على خطأ، لأن غير المجتهدين تبع للمجتهدين فإذا وقع المجتهدون في الخطأ وقعت الأمة في الخطأ وهذا منفي عنها بنص الأحاديث ، وفوق ذلك فإن الغفلة التي تؤدي إلى الخطأ قد تكون في بعض المجتهدين ولا تكون عامتهم، يقول الشافعي: «إنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن أن يكون فيها كافة غفلة من معنى كتاب ولا سنة، ولا قياس إن شاء الله» .
فمن أمثلة الإجماع المستند إلى كتاب الله تعالى: إجماع المسلمين على تحريم نكاح الجدات مهما علون، ومن أية جهة كن، وكذلك تحريم التزويج ببنات الأولاد ومهما نزلت درجتهن، وذلك إستنادا إلى قوله عز وجل: «حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم» ، فالمراد بالأمهات في هذه الآية الكريمة الأصول من النساء مهما علون، والجدة كأصل كالأمهات، كما أن المراد بالبنات الفروع من النساء.
ومن الإجماع المستند إلى السنة النبوية الشريفة إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على إعطاء الجدة السدس في الميراث، و الذي جاء بناء على ما رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة من أنه عليه الصلاة والسلام أعطاها السدس.
وقد يكون الإجماع إستنادا إلى القياس، كما في إجماع المسلمين على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قياسا على إمامته لهم في الصلاة أثناء مرض الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد يكون الإجماع مستندا على المصلحة عند من يقول بحجيتها، وقد وقع ذلك في عهد الصحابة، فعمر بن الخطاب أشار على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن في مصحف واحد، والذي قبل بعد تردد كبير حيث قال له: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله (ص)؟ فقال عمر: إنه والله خير ومصلحة للإسلام، وقد وافق بقية الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد إستنادا إلى مصلحة الإسلام والمسلمين في ذلك.
ومثله أيضا زيادة أذان ثالث لصلاة الجمعة في عهد عثمان، لإعلام الناس بالصلاة، وتنبيه كثير من المسلمين القاطنين في منازل بعيدة عن المسجد، حتى لا تفوتهم الصلاة، وكان مستندهم هو المصلحة ودفع المفسدة المترتبة على بقاء الأمر على ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
الفقرة الثانية: أركان الإجماع.
يتبين من تعريف الإجماع المشار إليه آنفا ضرورة توافر الأركان الأربعة التالية:
أولا: ركن الإجماع أو إتفاق جميع المجتهدين.
لكي نكون إزاء إجماع بإعتباره مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي لابد من موافقة جميع المجتهدين، فإذا خالف أحدهم لم ينعقد الإجماع، كما أنه لا يكفي صدور الإجماع من مجتهد واحد إذا إنفرد وجوده في زمن ما، لأن الإتفاق لابد فيه من متعدد، وقد يخطئ المجتهد حينئذ، ومن هنا لا يكون رأيه حجة قطعية كما هو شأن الإجماع، لأن المنفي عند الخطأ هو الإجماع، وهذا رأي جمهور الأصوليين في أنه ليس حجة ولا إجماعا، لأنه رأي فردي يجوز أن يخطئ.
ومن جهة ثانية لابد وأن يكون الإجماع صادرا عن مجتهدي المسلمين، أي من المسلمين الذين تتوافر فيهم شروط الإجتهاد كما حددها الفقهاء .
ثانيا: أن يكون المجمعون من أمة محمد (ص).
يشترط أن يكون أهل الإجماع -الذي هو محل البحث- من المسلمين، وهم: كل من أجاب دعوة رسول الله (ص) وآمن بما جاء به. والعلماء إتفقوا على أنه لا عبرة بالكافر في هذا الموضوع، لأن الكافر غير مقبول في مسائل ديننا، فهو متهم بقوله بسبب مخالفته في الدين، ومن ناحية ثانية، فإن الأمة الإسلامية قد إختصها الله عز وجل بالعصمة من الخطأ عند الإتفاق، ولم يشاركها في ذلك أمة أخرى حسبما جاءت بذلك الأدلة .
ثالثا: إتفاق المجتهدين بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.
إتفق جمهور الفقهاء على أن لا عبرة بالإجماع في عصره (ص)، لأنه إذا وافق الرسول (ص) المجتمعين، فالحجة هو قوله (ص)، وإن خالفهم فلا عبرة بما أجمعوا عليه، لأنه صاحب التشريع، وعليه لا ينعقد في عهد الرسول (ص).
ثم إن الرسول (ص) إذا وافق الصحابة على حكم كان الحكم ثابتا بالسنة لا بالإجماع، وإن خالفهم سقط إتفاقهم، ولا يكون حينئذ حكما شرعيا .
رابعا: إتفاق المجتهدين في عصر من العصور.
ليس المراد بداهة جميع مجتهدي الأمة في جميع العصور إلى يوم القيامة، وإلا أدى إلى عدم تحقق الإجماع أصلا، والمراد بالعصر: هو عصر من كان من أهل الإجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة الجديدة التي تتطلب حكما شرعيا فيها وعليه فلا يعقد الإجماع بمن صار مجتهدا بعد حدوث تلك المسألة، حتى ولو كان المجتهدون الذين أصدروا حكما فيها مازالوا على قيد الحياة، وإنما متى إتفق المجتهدون في عصر من العصور على حكم حادثة، إنعقد الإجماع وصار واجب الإتباع، في اللحظة التي صدر فيها الحكم.
خامسا: أن يقع الإجماع على حكم شرعي.
ينبغي أن يكون موضوع الإتفاق هو حكم الشريعة الإسلامية في المسألة المعروضة فلا يعتبر إجماعا بهذا المعنى إتفاق علماء اللغة أو المنطق أو غيرهم على قاعدة من القواعد ككون الفاء للتعقيب، أو القضايا العقلية كحدوث العالم، قال إمام الحرمين في البرهان: «ولا أثر للإجماع في العقليات، فإن المشجع فيها الأدلة القطعية، فإذا إنتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق».
المطلب الثاني: أنواع الإجماع وحجيته.
الفقرة الأولى: أنواع الإجماع.
الإجماع بحسب طريقة تكوينه نوعان: إجماع صريح وآخر سكوتي.
أولا: الإجماع الصريح.
ويطلق عليه أيضا الإجماع النطقي أو الإجماع القولي، وهو أن ينفق جميع مجتهدي العصر على حكم واقعة، بإبداء كل منهم رأيه صراحة بفتوى أو قضاء، وهذا قد يكون بإجتماعهم في مكان واحد، ثم بحثهم للواقعة أو النازلة المعروضة وتصريح كل مجتهد برأيه فيها، كما قد يتحقق الإجماع الصريح عند عدم تيسر تواجد كل المجتهدين المسلمين في مكان واحد، بأن يعبر كل منهم عن رأيه صراحة في المسألة محل الإجتهاد بأية طريقة من الطرق، ثم تجمع هذه الآراء المتفرقة، ويتكون من إتفاقها إجماعا.
ويعتبر الإجماع الصريح، عند الجمهور، حجة قطعية في ثبوت الأحكام الشرعية.
ثانيا: الإجماع السكوتي أو الضمني.
وهو أن يبدي بعض المجتهدين رأيه في مسألة ويعلم بها الباقون فيسكتون ولا يصدر عنهم صراحة إعتراف ولا إنكار ، ومثاله ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه أفتى بوجوب الزكاة عن الأموال المدينة على الدائن، وسمع بهذه الفتوى الصحابة رضوان الله عليهم، وسكتوا، فإن سكوتهم هذا يعد من قبيل الموافقة، وبالتالي يعتبر أن هناك إجماعا سكوتيا على الحكم القاضي بوجوب الزكاة على الأموال المدينة.
وإذا كان الإجماع الصريح يعد بإتفاق الفقهاء حجة قطعية في ثبوت الأحكام الشرعية، فإن الإجماع السكوتي إختلف فيه، على إعتبار أن الساكت من المجتهدين لا جزم بأنه موافق، فلا جزم بتحقق الإتفاق وإنعقاد الإجماع، لذلك ذهب البعض إلى أنه ليس بحجة ، وأنه لا يخرج عن كونه رأي بعض الأفراد من المجتهدين، ذلك أنه من شروط الإجماع أن يتفق جميع المجتهدين على الحكم، وهذا الشرط لم يتحقق في الإجماع السكوتي، لأن بعض المجتهدين سكتوا ولم يدلوا برأي، ولا يصح أن يفسر سكوتهم على أنه موافقة منهم لما أبدي من رأي، إذ السكوت قد ينشأ في بعض الأحيان عن أسباب أخرى غير الموافقة، كالخوف من القائل أو المهابة منه، أو لأنه يرى عدم وجوب الإنكار على القائل، لأن كل مجتهد مصيب.
أما القائلون بحجية الإجماع السكوتي، وهم الحنفية والحنابلة، فقد إشترطوا في توافر هذا الإجماع:
1- أن يكون السكوت مجردا عن علامة الرضا أو الكراهة.
2- وأن ينتشر الرأي المقول به من مجتهد بين أهل العصر.
3- وتمضي مدة كافية للتأمل والبحث في المسألة.
4- وأن تكون المسألة إجتهادية.
5- وأن تنتفي الموانع التي تمنع من إعتبار هذا السكوت موافقة كالخوف من سلطان جائر، أو عدم مضي مدة تكفي للبحث، أو أن يكون الساكت ممن يرون أن كل مجتهد مصيب، فلا ينكر ما يقوله غيره، لأنه من مواضع الإجتهاد، أو يعلم أنه لو أنكر لا يلتفت إليه، ونحو ذلك.
الفقرة الثانية: حجية الإجماع.
الإجماع حجة قطعية لا يسع أحدا أن يجتهد على خلافه إذا تحققت بشروطه، فهو إذن يفيد الحكم قطعا، بعد أن كان هذا الحكم ظنيا قبل تحققه، وعلى المكلف أن يمتثل لهذا الحكم كما يمتثل للحكم الثابت بنص الكتاب والسنة ، وهذا سواء تعلق الأمر بالإجماع الصريح أو السكوتي، لأن هذا الأخير وإن كان محل إختلاف الفقهاء فإنه إذا توافرت له شروط الصحة المتطلبة يعتبر شرعية عند جمهور الفقهاء .
وقد إستدل الجمهور على حجية الإجماع بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والعقل عند جمهور الفقهاء.
أولا: الدليل من الكتاب.
إن الأصل في حجية الإجماع من الكتاب قوله سبحانه وتعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا» وهذه الآية التي تمسك بها الشافعي على حجية الإجماع في "الرسالة" ووجه الإستدلال بها أن سبيل المؤمنين هو ما يتفقون عليه، ويجمعون على الأخذ به، فمتى تحقق إجماعهم على حكم شرعي، فإن هذا الإجماع يحرم إتباع سبيل غيره فهذا الأخير كمشاقة الله ورسوله، إذ جعل سبحانه وتعالى، جزاءهما واحدا، وهو الوعيد حيث قال: «نوله ما تولى ونصله جهنم».
ثانيا: الدليل من السنة.
وهو أقوى الأدلة كما قال الغزالي، فقد وردت أحاديث عن رسول الله (ص) تدل على عصمة الأمة من الخطأ، وإشتهر ذلك على لسان جماعة من الصحابة المرموقين الموثوقين كعمر إبن مسعود وأبي هريرة وغيرهم ممن يطول ذكرهم، حتى إن كثرة الأحاديث بألفاظها المختلفة، وإن لم تتواثر آحادها، لكن القدر المشترك بينها، وهو عصمة الأمة من الخطأ متواثر لوجوده في هذه الأخبار الكثيرة.
هذه الأحاديث هي: «لا تجتمع أمتي على خطأ»، «يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار»، وقوله (ص): «من فارق الجماعة بثرا، فمات إلا مات ميتة جاهلية».
ثالثا: عمل الصحابة.
من الثابت أن الصحابة رضوان الله عليهم لجأوا إلى الإجماع في الكثير من الحوادث والمسائل التي لم يجدوا فيها حكما شرعيا من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن الأمثلة على ذلك إجماعهم على تولي أبي بكر الصديق الخلافة بعد وفاة الرسول (ص) وإجماعهم على جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، وإجماعهم على محاربة أهل الردة عند إمتناعهم عن إعطاء الزكاة إلى غير ذلك من الأمور التي حصل فيها إجماع الصحابة وإتفاقهم.
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma