نشأة القانون الإداري و تطوره
ينبغي في البداية التوضيح بشأن بعض المصطلحات تفاديا لكل خلط قد يحدث لدى الدارسين للقانون الإداري. إذ لابد من إقرار مسألة جوهرية أن القانون الإداري كمجموعة قواعد غير مألوفة في القانون الخاص، والقانون الإداري كتسمية و كفرع من فروع القانون هو حديث النشأة حقا.
بينما نرى محاور جزئية ضمن القانون الإداري قديمة في ظهورها ولا يمكن الاعتراف بصفة الحداثة بشأنها. بل تعود نشأتها إلى أمم و شعوب خلت منذ ظهور الدولة في حد ذاتها كمفهوم دستوري.فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر نظرية التنظيم الإداري و هي أحد أهم محاور القانون الإداري فهي نظرية وجدت في الدولة الرومانية و الدولة الصينية و اليونانية و الإسلامية و غيرها من الدول و على مدى الحضارات و الأجيال المتعاقبة.
لذلك ذهب البعض إلى القول أنّ القانون الإداري كان ملازما للدولة الإسلامية منذ وجودها و ليس من خصائص الدولة الحديثة. لأنّ كل مجتمع متحضر أيا كان نوعه يوجد به قانون إداري بمعناه الواسع الذي يتناول مجموعة موضوعات منها نظرية التنظيم الإداري.[1]
وليست نظرية التنظيم الإداري لوحدها من عرفتها المجتمعات القديمة، بل نظرية المال العام، وسلطات الإدارة خاصة سلطة الضبط.
فكل هذه الخلايا اللصيقة بالقانون الإداري عرفتها الدولة القديمة التي لا يمكن أن يقوم لها ركن إذا لم تجسد فكرة التنظيم الإداري و تعتمد على الأعوان العموميين (الموظف العام). وتمارس جملة من السلطات كمظهر من مظاهر وجودها خاصة سلطة الضبط الإداري للتحكم في الجوانب الأمنية بما يؤدي إلى استقرار الأوضاع و تنظيم العلاقة بين الحاكم و المحكوم. فالمجتمعات القديمة عرفت القانون الإداري جوهرا و تطبيقا و ممارسة و لم تعرفه شكلا أو تسمية.[2]
أمّا القانون الإداري بالمفهوم الفني الضيق فلم يبرز للوجود إلا في فرنسا وعقب مراحل أساسية يمكن حصرها فيما يلي:
أولا: مرحلة عدم مسؤولية الدولة.
أجمعت مختلف الدراسات أنّ القانون الإداري ظهر في فرنسا وهو مرتبط بتاريخها ونظام الحكم فيها. فقبل الثورة الفرنسية 1789 تمتع الملوك بسلطات مطلقة في تسيير شؤون الدولة انطلاقا من فكرة أنهم امتداد لإرادة الله وأنهم ظلّ الله فوق الأرض. فالعدالة مصدرها الملك و لا يتصوّر خضوعه لأي شكل من أشكال الرقابة و حتى القضائية منها.
و لا شك أن تصورا من هذا القبيل لمن شأنه أن يخلع كل قيد يحيط بالإدارة في تصرفاتها. وهو ما يترتب عليه المساس بحقوق الأفراد خاصة بعد انشغال طبقة البرجوازية ورجال الدين في جمع الثروة مما زاد الوضع سوءا وهو ما دفع الفلاسفة ورجال الفكر و الفقهاء إلى دق ناقوس الخطر فطالبوا الشعب أن يلتف حولهم ما أدى في النهاية إلى انفجار الثورة.[3]
وكان الملك في المرحلة السابقة للثورة الفرنسية يقوم بنفسه بتوزيع الاختصاص بين المحاكم المختلفة و يملك حق سحب أيّ منازعة من القضاء ليتكفل هو بالفصل فيها أو يعهد بها إلى غيره، كما تمتع الملك بسلطة واسعة إزاء الأحكام فحقّ له أمر وقفها أو ممارسة حق العفو.[4]
ثانيا: مرحلة الإدارة القاضية [5] - Administration juge.
لما قامت الثورة الفرنسية رأت السلطة المنبثقة عنها أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعتزم الإدارة القيام بها وتحد من فعاليتها وهو ما تأكد عملا في زمن البرلمانات. لذا كان الانشغال الكبير الذي راود السلطة الفرنسية آنذاك هو محاولة إيجاد صيغة وطريقة لإبعاد منازعات الإدارة عن ولاية واختصاص المحاكم العادية.
فصدر لهذا الغرض القانون 16-24 أوت 1790 فجاء في الفصل 13 منه ما يليّ " إن الوظائف القضائية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و على القضاة وإلا كانوا مرتكبين لجريمة الخيانة العظمى ألا يتعرّضوا بأيّ وسيلة من الوسائل لأعمال الهيئات الإدارية".
"Les fonctions judiciaires sont distinctes et demeureront toujours sépares des fonctions administratives. les juges ne pourront à,peine de forfaiture troubler de quelque manière que ce soit les opérations des corps administratifs".
وتأكّد هذا المبدأ مرة أخرى بالقول: " إن القضاة لا يمكنهم التعدي على الوظائف الإدارية أو محاكمة رجال الإدارة عن أعمال تتصل بوظائفهم و يحظر على المحاكم حظرا مطلقا النظر في أعمال الإدارة أيما كانت هذه الأعمال ".
"Les juges, ne peuvent entreprendre sur les fonctions administratives ni citer devant eux les administrateurs pour raison de leurs fonctions.
Défenses intégratives sont faites aux tribunaux de connaître des actes d’administration de quelques espèces qu’ils soient ".
وهكذا اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أنّ مقاضاة الإدارة أو مساءلة أعوانها يؤدي دون ريب إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام. فعندما تنوي الإدارة نزع ملكية وتقف أمام القضاء من أجل هذا العمل فإنّ إجراءات النزع ستتوقف وأيلولة المال من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة ستجمّد. وهو ما يؤدي في النّهاية إلى تعطيل المشاريع ذات الطابع العام. وما قيل عن النزع يقال عن غيره من سلطات الإدارة كسلطة الضبط أو السلطات في مجال التعاقد.
و تطبيقا لهذا القانون فانّ المنازعات الإدارية التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها فإنها تحال مباشرة على الملك. أمّا المنازعات التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها فقد اختصّ بها حكام الأقاليم. فقد قالSirey عبارة تؤكد هذا المعنى سنة 1818:" العدالة الإدارية متمّمة و مكمّلة للعمل الإداري".[6]
ومن هنا اجتمع في الإدارة صفة الخصم و الحكم لذلك سميت هذه المرحلة بمرحلة الإدارة القاضية.
وجدير بالذكر أنّ أحكام هذا القانون منعت القضاء من تأويل النصوص الغامضة وألزمته باللجوء للسلطة التشريعية في نطاق ما يسمى بالدعوى التشريعية الاستعجالية.
والحقيقة أن الأسباب المستند إليها لفرض وإعمال قانون 1790 يمكن دحضها بالنظر لما يأتي:
1- إن عدم خضوع الإدارة أمام القضاء يعني أن المحاكم قد تكون في وضعية إنكار العدالة فهي حين يقصدها المتقاضون نتيجة عمل قامت به الإدارة أو تسبب فيه أحد أعوانها تضطر وتطبيقا لقانون 1790 إلى التصريح برفض الدعوى لعدم الاختصاص أيا كان الضرر الناتج عن هذا العمل وأيا كانت خروقاته وتجاوزاته.
2- لقد تناسى المدافعون عن القانون 1790 أنّ مبدأ الفصل بين السلطات يفرض تمكين السلطة القضائية من مراقبة أعمال السلطة التنفيذية وهذا ما أكده مونتسيكو نفسه في كتابه روح القوانين بقوله: " كل شخص بين يديه سلطة مدعو إلى أن يستبد بها فلا بد إذن حتى تنظم الأشياء بكيفية تجعل كل سلطة تمنع تجاوزات السلطة الأخرى ".
ولا مفر من الاعتراف لجهاز القضاء بمراقبة أعمال الإدارة وهذا تطبيقا لمبدأ المشروعية، وصونا للحقوق الأساسية و الحريات العامة، ومنعا للإدارة من كل عمل يطبع بالتعسف.
و تبقى أنّ هذه المرحلة من مراحل تطور القانون الإداري تتميز عن غيرها وسابقتها. ففي المرحلة الأولى لم تكن الدولة ومن ثمّ الإدارة تسأل عن أعمال موظفيها. أما في ظل المرحلة الجديدة (الإدارة القاضية) صار بالإمكان مساءلة الدولة عن أعمال موظفيها لكن أمام الإدارة نفسها.
ثالثا: مرحلة القضاء المقيّد أو المحجوز -Justice retenu.
بصدور دستور السنة الثامنة في عهد نابوليون بونابرت عرفت فرنسا تحولا جذريا في مجال منازعات الإدارة إذ نصت المادة 52 منه على إحداث مجلس الدولة كما تمّ إنشاء مجالس المحافظات. ولقد أرجع كثير من الكتاب سبب إنشاء المجلس إلى سيل الطلبات المرفوعة ضد الإدارة الفرنسية آنذاك.
وما يمكن ملاحظته أن قرارات المجلس في هذه المرحلة لم تكن تكتسي الطابع القضائي بل لا تخرج عن كونها آراء أو مشاريع قرارات بخصوص منازعات معينة وجب أن ترفع أمام القنصل العام (نابليون) باعتباره رئيس الدولة الذي كان له وحده حق المصادقة عليها أو رفضها.
فولاية المجلس لم تكن كاملة وشاملة وأحكامه لم تكن نهائية. أمّا مجالس الأقاليم فقد كانت قراراتها قابلة للطعن أمام مجلس الدولة الذي يبدي أيضا بشأنها الرأي ليرفع فيما بعد للقنصل العام و الذي إن شاء أضفى الطابع التنفيذي على رأي المجلس وإن شاء رفضه.
وإذا كانت هذه المرحلة قد عرفت نواة القانون الإداري ممثلة في مجلس الدولة، إلا أنّه لا يمكن الحديث عن وجود هذا القانون في هذه المرحلة بالذات لسببين:
1- إنّ مجلس الدولة لم يكن صاحب القرار النهائي عند فصله في النزاع بل أن قضاءه كان مقيدا أو معلقا على مصادقة رئيس الدولة، وبالتالي علّق قضاؤه على مشيئة ورغبة السلطة التنفيذية.
2- إنّ مجلس الدولة لم يعتمد أحكاما خاصة حال فصله في المنازعات إنّما طبق القانون الخاص.
وتشد تسمية مجلس الدولة الانتباه من زاويتين:
1- إنّ تسمية مجلس الدولة اعتمدت على غرار التسمية التي كانت سائدة قبل الثورة و هي مجلس الملك (Conseil du Roi) فكأنما المجلس أنشئ لمساعدة السلطة التنفيذية.
2- إنّ تسمية مجلس الدولة، أريد له في بداية الأمر أن يكون بمثابة هيئة مشورة تلجأ إليها السلطة التنفيذية.
وبخصوص حالات رفض رئيس الدولة الفرنسية لمشاريع الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة أشار الدكتور ثروت بدوي أنها لم تتعد ثلاث حالات طوال القرن التاسع عشر، وأنّ حالات التعديل كانت في صالح المواطن المدعي لا الإدارة. وإن كان الأستاذ المذكور أشار لصعوبة تحديد و حصر حالات التعديل بحكم الحريق الذي أتى على أرشيف مجلس الدولة الفرنسي 1871.[7]
رابعا: مرحلة القضاء المفوض (تغيير الطبيعة القانونية لمجلس الدولة) Justice déléguée.
لم تدم المرحلة السابقة طويلا إذ صدر في 24 ماي 1872 قانونا اعترف لمجلس الدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية دون حاجة إلى مصادقة السلطة الإدارية على قراراته. ولم تعد الأحكام تصدر باسم رئيس الدولة بل باسم الشعب الفرنسي ومنذ ذلك التاريخ أصبح مجلس الدولة جهة قضائية عليا بأتم معنى الكلمة حيث تم الفصل بين القضاء الإداري و القضاء العادي. ودرءا لأي تنازع في مجال الاختصاص قد يثور تم إنشاء محكمة تنازع تتولى الفصل في المنازعات بشأن الاختصاص الذي قد يحدث بين القضاء العادي و القضاء الإداري عند ابتداعه فكرة تمييز قواعد القانون الإداري عن مجموع قواعد القانون الخاص.
وقد نجح المجلس في تبرير هذه القواعد وتأسيس استقلالية القانون الإداري باعتباره القانون الذي يحكم المنازعات الإدارية. ولقد أحدث نجاحه هذا تخوفا لدى البعض من أن المجلس اغتصب الوظيفة التشريعية في فرنسا.وقد نجح المجلس في تبرير هذه القواعد وتأسيس استقلالية القانون الإداري باعتباره القانون الذي يحكم المنازعات الإدارية. عند إقراره للقواعد تحت عنوان القضاء الإنشائي أو الدور الإبداعي لمجلس الدولة وذلك بمناسبة فصله في القضايا المعروضة عليه.
ومن خلال هذا العرض التاريخي السريع يتبيّن لنا أنّ رغبة السلطة الفرنسية كانت واضحة في إبعاد القضاء العادي من أن يتولى النظر في منازعات الإدارة حتى لا يعرقل نشاطها وأعمالها. وإنّ إنشاء مجلس للدولة جاء ليترجم بصدق ضرورة التفكير في قواعد استثنائية غير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص تحكم نشاطات الإدارة.
ولقد أثبتت التجربة أنّ مجلس الدولة ومن خلال المنازعات المعروضة عليه عرف كيف يوازن بين مصلحة الإدارة وحقوق الأفراد الأمر الذي منحه ثقة المتقاضين و الشعب الفرنسي عامة.
واقتنع مجلس الدولة تمام الاقتناع أنّ تطبيق قواعد القانون المدني على منازعات الإدارة سيقف دون شك حائلا دون قيامه بمهمته على أفضل وجه ويعرقل حسن سير المرافق العامة. ولو اعتمد مجلس الدولة على قواعد القانون الخاص وحده حال فصله في المنازعات المعروضة عليه لما وصل القانون الإداري إلى ما وصل إليه ولما عرف ذاتيته واستقلاليته.
و أسّس مجلس الدولة قراراته على روح القانون العام أحيانا و على مقتضيات العدالة أحيانا أخرى و على حسن سير المرفق العام في حالات ثالثة.
ودأب مجلس الدولة على تقسيم أعمال السلطة التنفيذية إلى قسمين: أعمال السيادة وأعمال الإدارة العامة. فترك للإدارة حرية واسعة في دائرة الأعمال الأولى، وأقرّ عدم صلاحيته في مراقبة هذا النوع من الأعمال إن إلغاءا أو تعديلا،
وقصر رقابته فقط على ما يسمى بأعمال الإدارة العادية.[8]
ويعود سر استبعاد مجلس الدولة الفصل في القضايا التي تتعلق بما اصطلح عليه بأعمال السيادة من وجهة نظرنا أنّ لهذا النوع من الأعمال وثيق الصلة بالسياسة العامة للدولة، بشكل عام مما سيكون لها (أي الأعمال) بالغ الأثر على مجريات الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية. و أنّ التعرض لها بإلغاء من جانب المجلس الدولة من شأنه أن يفسد على السلطة التنفيذية ما رسمته من خطط لذلك استبعدها المجلس من مجال رقابته.
وأمام ما حققه المجلس من نجاح كبير لم تجد الدول الأوربية حرجا في التأثر بالنّمط القضائي الفرنسي و تخلت عن نظام القضاء الموحد كبلجيكا و ايطاليا وامتد أيضا لتركيا و اليونان. و بدورها سارعت بعض البلدان العربية كمصر وتونس و المغرب و الجزائر لتبني فلسفة القانون الإداري واستيعاب فكرة القواعد الاستثنائية وفصل جهة القضاء الإداري عن القضاء العادي ولو مرحليا وذات الأمر حدث في كل من السنغال وكوت ديفوار و الغابون.
وبهذا النجاح تعمّقت مكانة مجلس الدولة سواء في ضمير الشعب الفرنسي كحارس للحريات العامة و لحقوق الإدارة حافظا لمكانتها، مما دفعه إلى إقرار كثير من الامتيازات و السلطات و التي أصبحت تشكل فيما بعد جزءا لا يتجزأ من القانون الإداري.
ّهذا ويجدر التنبيه أن مجلس الدولة يتكون من هيئات إدارية وأخرى قضائية. وقد عهد للقسم الإداري بالمجلس وظيفة الاستشارة و ينقسم بدوره إلى قسم الشؤون الاجتماعية، وتمّ إنشاء لجنة جديدة أطلق عليها اسم لجنة التقرير وأسند إليها دور هام تمثل في إبداء الرأي حول مشروعات القوانين أو اللوائح المقترحة الخاصة بالإصلاح الإدارة. كما أسند إليها مهمة أخرى تتمثل في مراقبة تنفيذ الأحكام القضائية أما عن طريق العرائض التي يتقدم بها الأفراد للقاضي الإداري عند امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام.[9]
أمّا الوظيفة القضائية للمجلس فتتمثل في صلاحيته كمحكمة أول درجة بالنظر في المنازعات المحددة على سبيل الحصر منها:
- الطعون الخاصة بتجاوز السلطة أو دعاوى الإلغاء الموجهة ضد المراسيم اللائحية أو الفردية.
- المنازعات المتعلقة بالمراكز الفردية للموظفين المعنيين بمرسوم.
- الطعون الموجهة ضد أعمال إدارية يتجاوز نطاق تطبيقها دائرة اختصاص محكمة إدارية واحدة.
- كما ينظر المجلس في المنازعة الإدارية باعتباره محكمة استئنافية بخصوص الطعون المرفوعة ضد أحكام المحاكم الإدارية الإقليمية.[10]
خامسا: محكمة التنازع وقرار بلانكو الشهير.
إنّ الحذر الذي راود كثيرا من رجال الفقه و الإدارة في فرنسا لم يكن من القضاء العادي فقط، بل التخوف كان مركزا أكثر على القواعد القانون الخاص. لذا فان تخصيص قضاء مستقل للإدارة كان الهدف منه إحداث نواة لقانون متميز يحكم نشاطها.[11]وكانت مهمته هذه في غاية من الصعوبة خاصة من ناحية تعليل عدم صلاحية قواعد القانون الخاص لأن تحكم بعض صور نشاط الإدارة. ولعلّ النقلة النوعية و القرار التاريخي تجسد في قرار بلانكو الشهير.[12] ونظرا لأهميته نسوق وقائعه ومنطوقه:
تعرضت بنت صغيرة تدعى ايجنز بلانكو لحادث تسببت فيه عربة تابعة لوكالة التبغ الّتي كانت تنقل إنتاج هذه الوكالة من المصنع إلى المستودع. قام ولي البنت برفع دعوى لتعويض الضرر المادي الذي حصل لأبنته أمام المحكمة العدلية أو القضاء العادي على أساس أحكام القانون المدني الفرنسي. إلاّ أنّ وكالة التبغ اعتبرت أنّ النزاع يهم الإدارة وأنّ مجلس الدولة هو صاحب الاختصاص لذلك طالبت بإيقاف النظر في الدعوى حتى تبت محكمة تنازع الاختصاص في هذا الإشكال.
وحال عرض الأمر عليها أجابت محكمة تنازع الاختصاص بتاريخ 08 فبراير 1973 بما يلي:
"حيث أنّ المسؤولية الّتي يمكن أن تتحمّلها الدولة بسبب الأضرار التي يلحقها أعوان المرفق العام بالأفراد لا يمكن أن تخضع لمبادئ القانون المدني الّتي تضبط علاقة الأفراد فيما بينهم.
- حيث أن هذه المسؤولية ليست عامة أو مطلقة بل لها قواعدها التي تتغير حسب مقتضيات المرفق العام وضرورة التوفيق بين مصلحة الدولة وحقوق الأفراد.
- وحيث أصبحت بالتالي السلطة الإدارية وحدها المختصة بالنظر في هذا النزاع وهو ما يجعل قرار رئيس المقاطعة في رفع القضية أمام المحكمة قرار صائبا يستوجب إقراره ".
و هكذا يتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك أنّ هذا القرار أحدث هزة لا مثيل لها بخصوص إثبات ذاتية القانون الإداري على اعتبار أنّه مجموعة قواعد تحكم الإدارة العامة وتتضمن أحكاما استثنائية غير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص. وإذا نحن أمعنا النظر في حيثيات هذا القرار ومنطوقه نستنج ما يأتي:
1- أنّ هذا القرار أعلن عن وجود قواعد خاصة تحكم نشاط الإدارة بقوله: "حيث أنّ المسؤولية التي يمكن أن تتحمّلها الدولة لا يمكن أن تخضع لقواعد القانون المدني..."، ومنها (أي الحيثية) يفهم أنّ قواعد القانون المدني لم تعد تواكب نشاط الإدارة ولا تليق بطبيعة عملها. لذا وجب استبعادها لعدم صلاحيتها وقصر تطبيقها فقط على الأفراد بحسب ما أشير إليه صراحة. وحين يستبعد القانون المدني يقتضي المنطق القانوني التفكير في قواعد بديلة أكثر ملائمة لطبيعة النشاط الإداري أصطلح على تسميتها فيما بعد بقواعد القانون الإداري.
2- أكد القرار على خضوع الدولة للمسؤولية فعدم خضوعها لقواعد القانون المدني لا يعفيها من تحمل المسؤولية. وفي هذا المسلك مخالفة للقناعة السائدة في ذلك الوقت وهي عدم مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها.
3- أفصح هذا القرار عن المعيار المعتمد لمعرفة طبيعة المنازعة وهل يختص بالفصل فيها القضاء الإداري أم القضاء العادي وهذا المعيار أصطلح على تسميته بمعيار المرفق العام. فهو الّذي فرض مثل هذه القواعد الغير مألوفة في مجال روابط القانون الخاص.
4- أقرّت محكمة التنازع الفرنسية صراحة أنّ القواعد التي يخضع لها المرفق العام غير مستقرة وثابتة بل إنها تتغير كلما فرضت مصلحة المرفق ذلك فهي إذن في حركة مستمرة. و إزالة لكل خوف لدى الأفراد المتعاملين مع الإدارة أعلنت محكمة التنازع إن هذه القواعد الغير مألوفة ينبغي أن يراعي فيها التوفيق بين مصلحة الإدارة وحقوق الأفراد.
5- إنّ هذا القرار التاريخي اعترف للقاضي الإداري بتطبيق قواعد القانون الإداري. ولقد كان لهذا القرار بصمة واضحة ليس من ناحية إقرار مسؤولية الدولة فحسب بل من ناحية تعريف القانون الإداري و تحديد أسسه ورسم نطاقه وولايته كما سنرى ذلك لاحقا.
ومن ذلك كله نستنتج أنّ الازدواج القضائي أدى إلى الازدواج القانوني، أي وجود نوعين من القواعد القانونية. أحدها قواعد القانون الخاص التي تحكم كأصل عام منازعات أشخاص القانون الخاص. وثانيهما قواعد القانون العام التي تحكم المنازعات الإدارية و تستمد كأساس مصدرها من القضاء نفسه. ذلك أنّ قواعد القانون الإداري لم تنشأ بتدخل من المشرّع، ولم يصدرها في شكل منظومة مقننة كالقانون المدني أو التجاري أو الجنائي، وإنما نشأت هذه القواعد تباعا وعلى مدى مراحل طويلة على يد القضاء الفرنسي خاصة.
---------------
[1] أنظر الدكتور محمد عبد الحميد أبوزيد، وضع القانون الإداري في الإسلام و الدولة الحديثة، دراسة مقارنة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995، ص 151.
وأيضا الدكتور محمد صلاح عبد البديع السيد، الأصول الإسلامية للقانون الإداري، دار النهضة العربية، القاهرة 1999 ص 21. الدكتور مصطفى كمال وصفي، مصنفة النظم الإسلامية مكتبة وهبة، القاهرة، دون تاريخ نشر، ص437.
[2] لتفصيل أكثر بخصوص النظام الإداري الإسلامي راجع:
- الدكتور القطب محمد طبلية، نظام الإدارة في الإسلام دراسة مقارنة بالنظم المعاصرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1978، ص 12 وما بعدها.
- الدكتور رمضان محمد بطيخ، أصول التنظيم الإداري في النظم الوضعية و الإسلامية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1993، ص 16 وما بعدها.
- الدكتور مسعد أحمد مصطفى، أقاليم الدولة الإسلامية بين اللامركزية السياسية و اللامركزية الإدارية، رسالة دكتوراه، كلية الشريعة و القانون، جامعة الأزهر، 1983، ص 23 وما بعدها.
- محمد محمد هاجين، التنظيمات الإدارية في الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، 1984، ص 140 وما بعهدها.
- الدكتور سليمان محمد الطماوي، عمر بن الخطاب وأصول السياسة و الإدارة الحديثة، دراسة مقارنة، دار الفكر العربي، القاهرة 1976، ص 280 وما بعدها.
[3] الدكتور عمار عوابدي، الأساس القانوني لمسؤولية الإدارة عن أعمال موظفيها، الجزائر الشركة الوطنية للنشر و التوزيع – 1982، ص 18.
وأيضا: الدكتور رفعت عيد سيد، مبادئ القانون الإداري الكتاب الأول، دار النهضة العربية، القاهرة، 2003، ص 40.
-الدكتور ثروت بدوي، المرجع السابق، ص 59 وما بعدها.
-الدكتور ماهر جبر، المرجع السابق، ص 19 وما بعدها.
-الدكتور محمد عبد الحميد أبوزيد، المرجع السابق، ص 66 وما بعدها.
[4] الدكتور عبد الغني بسيوني عبد الله القضاء الإداري، بيروت، الدار الجامعية، 1993 ص72
- الدكتور محسن خليل، القضاء الإداري اللبناني ورقابته لأعمال الإدارة – دراسة مقارنة- بيروت، - دار النهضة العربية، 149 1978 ص20.
الدكتور سليمان محمد الطماوي، مبادئ القانون الإداري، ص 21.
[5] أنظر الدكتور عياض بن عاشور، القضاء الإداري وفقه المرافعات الإدارية الطبعة الثالثة مركز النشر الجامعي، تونس، 2006، ص 36 وما بعدها.
الدكتور محمد عبد الحميد أبو زيد، المرجع السابق، ص 67، وأيضا الدكتور ماهر جبر، نضر، المرجع السابق، ص 23. الدكتور ثروت بدوي، المرجع السابق، ص 63.
[6] أنظر الدكتور عياض بن عاشور، المرجع السابق، ص 39.
[7] أنظر الدكتور ثروت بدوي، المرجع السابق، ص 66.
[8] لتفصيل أكثر راجع:
-Droit Administratif, l’angle jurisprudentiel édition école polytechnique paris 2000, P275.
- Pierre Laurent Frier, OP cit, P 275.
[9] أنظر الدكتور أحمد محيو، المنازعات الإدارية، ص 23.
[10] لتفصيل أكثر بشأن تطور أجهزة القضاء الفرنسي راجع:
- André Maurin OP cit P 120 et suite.
- Jean Paul paslorel, Droit administratif memo fac, Paris, 2002, P 195.
…/… - Charles Debbasch, Droit administratif 6eme édition économia, Paris, 714 et suite
- Marie – christine Bouaut ; Goualino éditeur 2001 P262.
[11] البشير التكاري، مؤسسات إدارية وقانون إداري، كلية الحقوق جامعة تونس، 1995، ص21.
[12] خاصة وأنه جسد مسؤولية الدولة. راجع: الدكتور لعشب محفوظ، المسؤولية في القانون الإداري، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية 1994، ص 27.
جزء من محاضرات الدكتور عمار بوضياف
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma