المدخل لدراسة العلوم القانونية -3
الفرع الثاني : تطبيق الأحكام الشرعيةمن حيث المكان
معلوم أن الشريعة الإسلامية هي عالميةلا إقليمية أو محلية، إلا أن الواقع يفيد انحصار تطبيق الأحكام الشرعية في مجال مكاني محدد في أرجاء المعمور ولو أنها جاءت إلى الناس كافة، وبالتالي تطبيق أحكامها في الأقاليم التي ترفع فيها راية الإسلام، وهكذا يقسم الفقهاء المسلمون المعمور إلى
دار سلام ودار حرب،
وإذ يطبق الحكم الشرعي في الدار الأول فإنه يتعذر في الثانية إلى حين انتشار الإسلام فيها.
الفرع الثالث : تطبيق الأحكام الشرعية من حيث الأشخاص
تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على كافة الأشخاص وفقا لمبدأ المساواة بين جميع الأفراد والفئات الإجتماعية، دون تفرقةفي ذلك بين حاكم ومحكوم وبين غني وفقير وبين رجل وامرأة وغيرهم.
وتعمل الشريعة الإسلامية أيضا بمبدأ المساواة بين المسلمين والذميين في أحكام التشريع ولا تميز فيما بينهم إلا فيما هم فيه مختلفون عقديا من منطلق أن
"لا إكراه في الدين"
والعديد من الأحاديث النبوية الشريفة توصي باحترام الذميين في ذويهم وأموالهم وعوائدهم وعقيدتهم في إطار ما لا يمكن أن يمس بالنظام العام الإسلامي.
المبحث الثاني : تفسير القانون وإلغاءه
إن تفسير وإلغاء القانون يتعلق بتحديد نطاق تطبيق القاعدة القانونية من حيث الموضوع، أي بيان معناها والمقصود منها ومدى دوامها. وهذا يأتي بتفسير القانون وإلغاءه. فالتفسير هو الوسيلة التي بواسطتها نتعرف على معنى القاعدة القانونية،
والإلغاء هو شهادة وفاة القاعدة القانونية بعد أن تكون قد شاخت وأصبحت غير قادرة على تلبية رغبات المجتمع فتترك القاعدة الملغاة محلها لقاعدة جديدة تكون أكثر ملائمة لظروف وحاجات المجتمع.
المطلب الأول : تفسير القانون
يفيد تفسير القانون تحديدمضمون القاعدة القانونية والتعرف على عناصرها وأوصافها، بتوضيع ما بها من غموض وتفصيل مما بها من عموم والتقريب بين الحكم والنص.
ودراسة التفسير تقتضي الوقوف على أنواع التفسير ومدارسته.
الفرع الأول : أنواع التفسير ثمة تفسير يصدر عن المشرع وآخر يصدر عن القاضي ثم عن الفقه.
أولا : التفسير التشريعي :التفسير التشريعي هو الذي يدلي به المشرع تفسيرا لقانون سابق، وذلك من خلال قانون مفسر لآخر سابق، ذلك فضا لما يشوبه من غموض وما يختلف بشأنه القضاء وما بإمكانه تهديد استقرار المعاملات.
ولقد ساد هذا النوع كثيرا فيما مضى قديما، لكن اليوم مع سيادة مبدأ الفصل بين السلطات انحصرت مهمة المشرع في إصدار التشريع وأسندت مهمة تطبيقه وتفسيره إلى القضاء، وكلما كان ثمة تفسير تشريعي يكون ملزما وللجميع الأخذ به، وهو يرتد إلى تاريخ نفاذ التشريع السابق دون أن يكون في ذلك مس بمبدأ عدم رجعية القانون.
ثانيا : التفسير القضائي والتفسير الفقهي :
التفسير القضائي هو الذي تلجأ إليه المحاكم وهي بصدد النظر في المنازعات قبل إصدار الأحكام، مما يجعل التفسير يكون مرتبطا بوقائع كل قضية على حدة وظروفها،
أما التفسير الفقهي فهو الذي يقوم به رجال الفقه عند دراستهم لظاهرة قانونية ما وما يسهبون فيه من شروح من خلال إخضاعهم الظاهرة للمناهج العلمية الممكنة، وإذا كان يغلب على التفسير الفقهي الطابع النظري والتفسير القضائي الطابع العملي فكل منهما يتوقف على الآخر والواحد يكمل الثاني.
الفرع الثاني : مدارس التفسيرلما أضحى القانون علما قائما بذاته احتاج تفسيره إلى مدارس علمية وهذا ما سمح بتعدد مدارس التفسير حسب منطلق كل منهما.
أولا : مدرسة الشرح على المتون : ظهرت بفرنسا في القرن التاسع عشر، وهي من أشهر المدارس، بدأ تكوينها مع صدور تقنينات نابليون ويتجلى
أسسها فيما يلي :
1 – تقديس النصوص التشريعية (النزعة النصية)
2 – تغليب قصد المشرع عند تفسير التشريع :
أي تغليب إرادة المشرع وروح التشريع على عبارات النص
3 – احتكار المشرع إنتاج القانون : إلى حد حث القاضي على رفض الدعوى كلما تعذر عليه الوصول إلى قصد المشرع، فليس هناك فكر أوعدالة اسمى من فكر وعدالة المشرع.
ثانيا : المدرسة التاريخية :
ظهرت هذه المدرسة في ألمانيا، وترتكز على أن القانون ليس وليد إرادة واعية مدبرة من طرف المشرع بل هو من صنع عوامل اجتماعية وظروف الجماعة، ولا ينبغي تحري إرادة المشرع التي انتهى دورها عندوضع القانون، بل تحري ظروف الجماعة عند تطبيقه.
وإذا اتسمت هذه النظرية بإضفاء مرونة على النصوص التشريعية بجعلها مواكبة لظروف الجماعة، فإنها بقيت عامة وشاملة بحيث لم تتمكن من وضع قواعد ثابتة للتفسير يمكن التقيد بها من طرف المفسر.
ثالثا : المدرسة العلمية :
قامت هذه المدرسة في فرنسا وترى أن ما دام القانون جوهر يتألف من عدة حقائق منها ما هو طبيعي ومنها ما هو تاريخي وعقلي ومثالي، فإن التفسير لا يجب الاكتفاء فيه على نطاق التشريع فحسب كمدرسة شرح المتون بل الأخذ بعين الاعتبار مصادر القانون الأخرى. فالحل لا يكون في التشريع بمفرده فقد يكون في العرف أو غيره من المصادر، وهي نظرية جاءت كرد عنيف على النزعة النصية. ويلاحظ أن هذه المدرسة تحظى بانتشار واسع أكثر من غيرها.
المطلب الثاني : إلغاء القانون L’Abrogation
الفرع : مفهوم الإلغاء ومجاله
يفيد الإلغاء وفق العمل بالقواعد القانونية بجعلها عديمة الجدوى والفائدة وبإفقادها قوتها الإلزامية، وذلك إما بإحلال قواعد قانونية جيدة محلها وإما بالتخلي عنها نهائيا دون الحاجة إلى استبدالها بأخرى.
وإذا يفيد إلغاء القانون وضع حد لسريان قواعده، فإن ذلك ينطبق على مختلف أنواع القانون تشريعا كان ذلك أو عرفا أو غيرهما، علما أن المقصود في هذه الدراسة هو إلغاء التشريع المكتوب، لكون أغلب قوانين البلدان الحديثة هي من قبيل التشريع، أما العرف وغيره فمجالاته محدودة وإلغاؤها جميعا لا يثير صعوبات.
وبصدد إلغاء التشريع ثمة إشكالات تطرح حول السلطة صاحبة الاختصاص وكذا حول مختلف أنواع الإلغاء.
الفرع الثاني : السلطة المختصة بالإلغاء
بديهي أن السلطة التي أصدرت قواعد قانونية غالبا ما تكون هي صاحبة الاختصاص في إلغائها وإصدار أخرى بدلها، ونستخلص من هذا أن القاعدة القانونية أيضا لا تلغى إلا بقاعدة قانونية من نفس الدرجة والقوة، حيث سلفت الإشارة إلى أن القانون درجات في مقدمتها التشريع والعرف وما يليهما من باقي المصادر الرسمية والتفسيرية للقانون.
ويفيد ما سلف أن قواعد التشريع تلغي التشريع كما بإمكانها إلغاء ما دونها من قواعد العرف وغيرها، كما أن العرف يلغي بسهولة القواعد العرفية وما دونها من قواعد قانونية وهكذا دواليك، وهو ما يستفاد منه بداهة عدم استساغة إلغاء القواعد الدنيا للقواعد العليا، كتجرأ إلغاء العرف للتشريع.
وما دمنا بصدد دراسة التشريع فمعلوم أنه بدوره يعرف تدرجا داخليا بين قواعده، حيث سلف عنا أن له قواعد قانونية عليا تتجلى في التشريع الأساسي (الدستور) وقواعد قانونية وسطى تتجلى في القانون العادي الصادر عن السلطة التشريعية، وقواعد قانونية دنيا تتجلى في التشريع الفرعي، وإن هذا التدرج يفرض مراعاته عند إلغاء القانون حيث أن القانون الأعلى يلغي ذاته أو ما هو دونه من قواعد قانونية، ولا تقوى القواعد الدنيا إلا على إلغاء ذاتها أما ما هو أعلى منها فمستحيل قانونا.
الفرع الثالث : أنواع الإلغاءيتم إلغاء التشريع بأحد أسلوبين إما بالإلغاء الصريح إما بالإلغاء الضمني.
- 1 - الإلغاء الصريح : Abrogation expresse
يكون إلغاء القانون صريحا كلما صدر قانون جديد ينص صراحة على أن القانون السابق ملغى، وهذا ما نص عليه المشرع المغربي صراحة في الفصل 474 من قانون الالتزامات والعقود حيث : "لا تلغى القوانين إلى بقوانين لاحقة، وذلك إذا نصت هذه صراحة على الإلغاء..." وهو الأسلوب المألوف في مختلف التشريعيات تفاديا لكل غموض أو تنازع بين القوانين.
- 2 - الإلغاء الضمني : Abrogation tacite
هو الإلغاء الذي لا ينص عليه المشرع صراحة عند إصداره لقانون جديد، وإنما يستخلص من أحد أمرين : إما من خلال تعارض القاعدة الجديدة مع القاعدة القانونية القدمية، وإما من خلال إصدار المشرع لقانون ينظم نفس الموضوع بشكل جديد ومخالف لما كان عليه الأمر في القانون السابق، وهذا ما نص عليه الفصل 474 المشار إليه أعلاه حينما نص على أن "لا تلغى القوانين إلا بقوانين لاحقة، وذلك إذا نصت هذه صراحة على الإلغاء، أو كان القانون الجديد متعارضا مع قانون سابق أو منظما لكل الموضوع الذي ينظمه" وهو أيضا ما نص عليه صراحة القانون المدني المصري.
الباب الثاني : نظرية الحق
لا تكتمل الدراسة والإستعاب الكامل والشامل للمدخل لدراسة القانون إلا بدراسة نظرية الحق، نظرا للعلاقة التلازمية القائمة بين القانون والحق، ولأن الحقوق هي من إنتاج القانون فهو الذي يقرها ويحميها ويضفي عليها الطابع القانوني. ويضع لها حدود تمتع كل شخص بها والقيود التي يجب على الغير عدم تجاوزها صيانة وحماية للحق الذي يتمتع به الشخص. وكل تجاوز لهذه الحدود وهذه القيود، فإن القانون يعطي لصاحب الحق المصلحة والوسائل القانونية للدفاع عن حقوقه وحمايتها.
وقد كان وجود الحق من الموضوعات الخلافية بين الفلاسفة وفقهاء القانون بين منكر ورافض لفكرة الحق، ولأساسها وأصلها، ومعترف ومقر بوجود الحق على اعتبار أن الحق مرتبط بالفرد سواء بصفته الفردية أو في علاقته بالجماعة.
ويتضمن عرض ودراسة وتحليل الحق الحديث عن مفهوم الحق وبيان أنواعه وتقسيماته، وتحديد المخاطبين به، وموضوعه ومضمونه.
الفصل الأول : ماهية الحق وتقسيماته.مفهوم الحق من المفاهيم القانونية التي أثارت الكثير من النقاش والجدال بين الفلاسفة والمذاهب القانونية المختلفة، بحيث لم يكن تعريف الحق محط اتفاق واعتراف من طرف جميع المهتمين بالمجال القانوني والأنساق القانونية، بحيث برزت في هذا الإطار مجموعة من الاتجاهات الفكرية والمذاهب القانونية التي حاولت أن تجد تعريفا محددا للحقوق بالاعتماد على عناصر معينة في التعريف.
ولكن على الرغم من هذا الاختلاف في وجود الحق وأساسه، وتحديد العنصر الراجح في تعريفه. فإن فكرة الحق أصبحت من المسلمات القانونية، وإحدى المفاهيم والموضوعات القانونية التي تشكل محورا لمجموعة من التشريعات والتقنيات المختلفة والمتنوعة الناتجة عن طبيعة كل حق ونوعه.
المبحث الأول : مفهوم الحق :قبل أن نتطرق لمفهوم الحق ولمختلف التعريفات التي أعطيت له سنتعرض إلى إشكالية وجود الحق.
المطلب الأول : إشكالية وجود الحق :" إن فكرة الحق كمفهوم وكإجراء تعرضت إلى جذل فقهي كبير بين تيار مؤيد وآخر متشبث بفكرة الرفض. فالاتجاه الأول مرتبط بالنزعة المعيارية وينظر إلى الحق كدعامة أساسية، وركيزة ضرورية للمنظومة القانونية، أما الاتجاه الثاني فيعتبرها فكرة غيبية ميتافيزيقية لا معنى لها إلا حشرها في إطار النسق القانوني المستجيب والنابع من التغيرات الاجتماعية.
الفرع الأول : نظرية ديجي في إنكار وجود الحق :
يعتبر الفقيه الفرنسي ليون ديجي أحد أبرز فقهاء القانون الذي أنكر وجود شيء إسمه الحق، ويعتمد الفقيه ديجي في إنكاره لفكرة الحق إلى أن هذا الأخير يقوم على كونه سلطة إرادية.
وهذا يستتبع أن يكون لإرادة ما الغلبة والسيطرة على أخرى، وهو ما يخالف الواقع لأن الإرادات كلها متساوية. والحقيقة في نظره أن ما يسمى بالحق ليس إلا مركزا قانونيا خاصا يضع القانون فيه الشخص دون أن تكون لإرادته دخل في ذلك. فهو يستبدل بالحق. "المركز القانوني الإيجابي" ويستبدل بالواجب "المركز القانوني السلبي" وميزة هذا التصوير عنده أن صاحب المركز القانوني لا يبدو أنه في مركز أعلى أو أدنى من غيره.
إن إنكار ليون ديجي لوجود الحق جاء في سياق الفلسفة القانونية التي تبناها، والقائمة على نفيه وعدم اعترافه بالمذهب الفردي والتيار الليبرالي الذي يعترف للفرد بمجموعة من الحقوق الطبيعية السابقة على القانون. وإن القانون لا يقوم إلا بإقرار هذه الحقوق وبلورتها وصياغتها في قالب قانوني. يستجلي هذه الحقوق وتضع الآليات القانونية لصونها وحمايتها إزاء الغير.
وهو حينما يهاجم المذهب الفردي وفكرة الحق، فإنه يؤكد أن "الحق لا يمكن أن يوجد إلا في الجماعة التي لا يمكن أن توجد بغير القانون".
الفرع الثاني : فكرة الحق عند هانز كيلسن HANSKELSEN :يعتبر الفقيه هانز كيلسن أحد أعمدة النظرية القانونية الخالصة، بحيث لا يعترف إلا بالقانون، بحيث يرى أنه من اللازم استبعاد كل المفاهيم السياسية والترسبات العقائدية والتصورات الاجتماعية والفلسفية في تفسير الظاهرة القانونية، باعتبار أن القانون نسق متكامل مستوفي كل شروط الاستقلال. وهو خاضع للصيرورة الزمانية والمكانية، وقواعده ذات طبيعة علائقية، بحيث أن القاعدة المركزية تحيل إلى الفرعية. فهو يرى أن قاعدة القانون من زاوية تطبيقها على الفرد لا تنشئ سوى التزام قانوني، هو وجوب سلوك معين ترغب الدولة في أن يتبع، وإلا فإن فردا آخر هو ممثل الدولة، يجب عليه أن يجبر الأول على ذلك، والقاعدة التي تنظم هذا الإجبار تضع شروطا لتطبيقه، هو وقوع السلوك المخالف للسلوك الذي تفرضه قاعدة سابقة، ففي كل هذا لا يوجد سوى الواجب وليس هناك حق لأحد. فمفهوم الحق في تصوره لا يختلف من حيث الرؤيا وزاوية النظر في تصوره عن قاعدة القانون الطبيعي المستوحى من الواقع الاجتماعي، أي أن الحق في جوهره وأساسه هو القاعدة القانونية. فكل قاعدة بعينها تفرض التزاما وتستوجب واجبا معينا، لكنها لا تعطي ولا تقرر حقا معينا، ولذا يرى ضرورة استبدال فكرة الحق بفكرة الواجب.
وهو بذلك لا ينكر وجود فكرة الحق، وإنما ينظر إليها من زاوية مختلفة بحيث اعتبرها ناتجة عن تطبيق وتقنين القاعدة القانونية.
المطلب الثاني : تعريف الحق من خلال المذاهب القانونية :اختلف فقهاء القانون في تعريف الحق وتحديد عناصره، فمنهم من عرف الحق انطلاقا من الشخص المتمتع به، ومنهم من عرفه انطلاقا من موضوعه، ومنهم من اعتمد على العنصرين معا، أي الشخص والموضوع، وهو ما يعرف بالاتجاه المختلط.
الفرع الأول : المذهب الشخصي :يعتبر المذهب الشخصي من أقدم المذاهب القانونية الذي تعرض لإشكالية تعريف الحق، حيث اعتمد في تعريفه وتحديده على سلطة الإرادة، وعلى مدى قدرة الشخص الذي يمتلك هذه الإرادة في اكتساب الحق والتمتع به. غير أن سلطة هذه الإرادة في اكتساب الحق والتمتع به وحمايته ليست قدرة تلقائية ومنطلقة لا حدود لها، وإنما سلطة يستمدها الشخص من القانون، لذلك عرف أصحاب هذا المذهب الحق بأنه "سلطة للإرادة يمنحها القانون وحميها". ورغم أن هذا المذهب تزعمه كبار الفقهاء الألمان في القانون أمثال سافيني، وجيرك، دونيد شايد. فإن اعتماده على عنصر الإرادة جعله عرضة لجملة من الانتقادات التي حاولت أن تبرز أن القانون يمنح الحقوق حتى لغير دوي الإرادة كالمجنون والمعتوه والقاصر، وبالتالي فإن انعدام الإرادة للشخص لا يترتب عنه انتهاء الحق وانتماءه، بل إن هذا الحق يستمر في شخص الولي، أو النائب لصالح منعدم الإرادة، نفس الشيء بالنسبة للغائب الذي يكتسب الحق نتيجة وصية مثلا على الرغم من عدم علمه بها، ولا دخل للإرادة في ذلك.
كما أن ربط الحق بقدرة الإرادة، فيه مخالفة للواقع، فالحق موجود ومستقل عن الإرادة، ودور الإرادة لا حق عليه، بمعنى أن قدرة الإرادة لا تظهر إلا عند مباشرة الحق فقط. فتجب التفرقة إذن بين الحق في ذاته وبين مباشرته، بين الحق في ذاته وكيانه وبين الحق حين يتاح لصاحبه أن يباشره.
فالحق يوجد ولو دون تدخل من الإرادة ولو لم تجد الإرادة نفسها. ولكن مباشرة هذا الحق واستعماله لا يكون إلا عن طريق الإرادة. والحقيقة أن الإرادة إن لزمت بالنسبة للحق، فهي لا تلزم لكسبه، وإما تلزم فقط لمباشرته. أي لوضعه موضع التنفيذ. من هنا فإن الاعتماد على سلطة الإرادة في بلورة هذه السلطة في تحديد الحق ومباشرته وحمايته، لا يمكن اعتبارها العنصر المحدد والحاسم في تعريف الحق، لذا تشكل مذهب قانوني آخر استبعد عنصر الإرادة، وأحل محله عنصر الموضوع أو المحل أو المصلحة.
الفرع الثاني : المذهب الموضوعي :تزعم هذا الاتجاه الفقيه الألماني إهرنج الذي عرف الحق بأنه "مصلحة مشروعة يحميها القانون".
وتبعا لهذا التعريف فإن الحق يتضمن عنصرين :
1 – العنصر الموضوعي : ويكمن في المصلحة غاية الحق، وهدفه العملي.
2 – العنصر الشكلي : يتمثل في الحماية القانونية للمصلحة أو الغاية التي يحددها الحق.
فموضوع الحق أي الغاية والمصلحة أو الهدف من الحق يشكل حجز الزاوية في تعريفه، والحماية القانونية هي العنصر الذي يكفل احترام هذه الغاية.
إلا أن تعريف الحق بالنظر إلى موضوعه واعتبار المصلحة جوهر الحق، كانت النقطة التي تركزت عليها الانتقادات التي وجهت إلى هذا المذهب، لأن المصلحة لا تعتبر جوهر الحق بل هي مجرد هدف يرمي إلى تحقيقه صاحب الحق.
فليست المزايا المقصودة من تقرير حق الشخص في الحرية هي الحق ذاته، وليست المنافع المادية التي يمكن للمالك أن يحصل عليها من الشيء المملوك له هو حق الملكية ذاته، وليست الفائدة التي يحصل عليها الدائن من الأداء الذي يلتزم بها المدين هي حق الدائنية ذاته.
الفرع الثالث : الاتجاه المختلط :حاول هذا الاتجاه أن يوفق بين المذهب الشخصي الذي يعتبر الحق سلطة والمذهب الموضوعي الذي يعتبر الحق مصلحة، وذلك بالجمع بين العنصرين، وتغليب أحدهما عن الآخر.
" ومن بين التعريفات التي غلبت عنصر المصلحة تعريف الأستاذ كمابيتان للحق بأنه مصلحة مادية أو أدبية يحميها القانون بتخويلها صاحبها سلطة القيام بالأعمال الأزمة لتحقيق هذه المصلحة.
بينما يغلب البعض الآخر عنصر الإرادة، فيعرف الحق بأنه قدرة إرادية يعترف بها القانون للشخص، ويكفل حمايتها في سبيل تحقيق مصلحة معينة.
وعلى الرغم من محاولة هذا الاتجاه إيجاد تعريف شامل لمختلف العناصر التي يجب أن يتضمنها تعريف الحق، فإنها لم توفق في ذلك، بحيث أن هذا المجهود لم يخرج في جوهره عن التعريفات السابقة. وبالتالي ظهرت نظرية حديثة في تحديد مفهوم الحق واستجلاء عناصره.
الفرع الرابع : النظرية الحديثة في تعريف الحق :
عرفت المذاهب السابقة الذكر بالنظريات التقليدية في تعريف الحق، وظهرت على أنقاضها نظرية جديدة تعرف بالنظرية الحديثة.
ويعتبر الفقيه البلجيكي دابان أحد المؤسسين لهذه النظرية. وعرف الحق بأنه " ميزة يخولها القانون للشخص، ويضمنها بوسائله. ويتصرف بمقتضاها فيما يؤول إليه باعتباره مملوكا أو مستحقا".
من هذا التعريف يتضح أن خصائص الحق المميزة أو عناصره الأساسية التي يتكون منها هي:
1 – الاستئثار أو الاختصاص بمال أو بقيمة معينة.
2 – تسلط صاحب الحق.
3 – لزوم أن يوجد آخرون يحترمون الحق.
4 – الحماية القانونية.
- 1 – "عنصر الاستئثار أو الاختصاص بقيمة معينة، ويعني ذلك أن استئثار الشخص والانفراد بموضوع الحق دون كافة الناس، فالشيء أو القيمة تتبع صاحب الحق، فيختص بها فأول ما يبرز الحق هو علاقة التبعية التي تلحق شيئا معينا أو قيمة معينة بصاحب الحق فيختص بها وينفرد بالاستئثار بها.
والفقيه دابان يرى أن موضوع الاستئثار يمكن أن يشمل أشياء متعددة ومختلفة، كذلك الأمر فيما يتعلق بطرقه وأسبابه. فالأموال والقيم التي يرد عليها الاستئثار لا تقف عند الموجودات المادية أي المالية، كالعقارات والمنقولات بكل أنواعها، بل يتعدى ذلك إلى القيم المعنوية، والمعايير الروحية، كالشرف والكرامة والحرية والمصداقية.
- 2 – تسلط صاحب الحق : وهو ما يسميه دوبان القدرة على التصرف بمعنى مباشرة موضوع الحق واستغلاله والتصرف فيه. فحق الملكية يخول للمالك سلطة مطلقة للقيام بجميع أنواع الاستعمال المادي والقانوني.
- 3 – الاقتضاء : إن ثبوت الحق لصاحبه بناء على العلاقة التي تقوم بين صاحب الحق وموضوع الحق، يترتب عنه قيام علاقة بين صاحب الحق والغير، وأساس هذه العلاقة بين صاحب الحق والغير، هو التزام الغير باحترام هذا الحق وعدم المساس به، وكل إخلال بهذا الالتزام يعطي لصاحب الحق اللجوء إلى السلطة المخولة له لدفع الضرر الذي لحقه من الغير.
- 4 – الحماية القانونية : أي اللجوء إلى القضاء عن طريق رفع الدعوى لحماية الحق من اعتداء الغير.
إن مختلف التعريفات السابقة لا تختلف في جوهرها عن بعضها البعض، لذا فإن إعطاء تعريف محدد وواضح للحق يحدد مختلف العناصر والأركان التي يجب أن يتضمنها التعريف تبقى مسألة أساسية.
فقد عرف أحد الفقهاء الحق بأنه "قدرة لشخص من الأشخاص، على أن يقوم بعمل معين، يمنحها القانون ويحميها تحقيقا لمصلحة يقرها". وعرفه أوستن بأنه "صلة تقوم بين طرفين الدائن والمدين" وعرف الأستاذ المنصوري الحق بأنه "مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون".
ويعرفه الأستاذ العبدلاوي بأنه "سلطة لشخص من الأشخاص يستطيع بمقتضاها ممارسة سلطات معينة، يمنحها ويكفلها له القانون بغية تحقيق مصلحة يقرها".
من خلال هذا التعريف يظهر أن أركان الحق هي :
1 – صاحب الحق.
2 – محل الحق أو موضوعه.
3 – الحماية القانونية لهذا الحق.
المبحث الثاني : أنواع الحقوق :من المتفق عليه في الفقه القانوني أن الحقوق أنواع مختلفة، تختلف باختلاف مجالات النشاط الإنساني بحيث تقسم الحقوق عادة إلى الحقوق السياسية والحقوق المدنية. والحقوق المدنية تنقسم بدورها إلى حقوق عامة وحقوق خاصة. والحقوق الخاصة تنقسم إلى حقوق الأسرة والحقوق المالية. والحقوق المالية تنقسم إلى حقوق عينية، وحقوق شخصية، وحقوق معنوية. وسنتعرض لمختلف أنواع هذه الحقوق.
المطلب الأول : أنواع الحقوق:
الفرع الأول : الحقوق السياسية والحقوق المدنية :
البند الأول : الحقوق السياسية :
وهي الحقوق التي تثبت للفرد بوصفه عضوا في جماعة سياسية التي هي الدولة، وهذه الحقوق تنص عليها وتنظمها التشريعات الخاصة بكل دولة، بحيث تكفل هذه التشريعات حق المواطن في المساهمة في تدبير الشؤون العامة، والمساهمة في صناعة القرار السياسي من خلال المشاركة في عملية التصويت، والترشيح للعضوية في المجالس المحلية، والمجالس النيابية، وحق تولي الوظائف العامة.
فهذه الحقوق يكفلها الدستور المغربي لجميع المواطنين الذين يتوفرون على الأهلية القانونية والسياسية، بحيث ينص الفصل الثامن من الدستور المغربي لسنة 1996 أن الرجل والمرأة متساويان في التمتع بالحقوق السياسية.
لكل مواطن ذكر أو أنثى الحق في أن يكون ناخبا إذا كان بالغا سن الرشد ومتمتعا بحقوقه المدنية والسياسية.
نفس الشيء بالنسبة للوظائف العامة بحيث نص الفصل 11 على أنه
" يمكن لجميع المواطنين أن يتقلدوا الوظائف والمناصب العمومية وهم سواء فيما يرجع للشروط المطلوبة لنيلها".
إن هذه الحقوق لا تقرر لجميع الناس بل لفئة منهم، فالأصل فيها أن تكون قاصرة على الوطنيين إذ لا يساهم في حكم الدولة إلا من ينتمي إليها بجنسيته. ولكن يجوز استثناء أن يستعان بموظفين من الأجانب.
النبد الثاني : الحقوق المدنية :هي الحقوق التي تقر للشخص ممارسة أنشطته المختلفة المادية منها والمعنوية كحق الشخص في إبداء الرأي وحقه في اعتناق عقيدة معينة،وحريته في التعاقد والبيع، والشراء إلى غير ذلك من الحقوق المرتبطة بوجود الشخص وكيانه ونشاطه في الجماعة.
وتنقسم الحقوق المدنية إلى حقوق خاصة وحقوق عامة.
الفرع الثاني : الحقوق العامة والحقوق الخاصة :البند الأول : الحقوق العامة :
وتعرف كذلك بالحريات العامة والحقوق الطبيعية على اعتبار أن هذه الحقوق تثبت للشخص لصفته الإنسانية وطبيعته البشرية كحق الإنسان في الحياة، وحرية الاعتقاد، وحقه في الاسم أو حق وحرية التجول إلى غير ذلك من الحقوق العامة التي أقرتها مختلف الدول في تشريعاتها وقوانينها، وأعطت لها مكانة خاصة في ديباجة دساتيرها، وهكذا نجد الدستور المغربي نص في فصله الرابع : "يضمن الدستور لجميع المواطنين :
- حرية التجول وحرية الاستقرار بجميع أنحاء المملكة.
- حرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع.
- حرية تأسيس الجمعيات وحرية الانخراط في أية منظمة نقابية وسياسية حسب اختيارهم. ولا يمكن وضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون".
ونظرا لكونية هذه الحقوق، فإن منظمة الأمم المتحدة أصدرت منذ السنوات الأولى من تأسيسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونصت المادة الثانية من هذا الإعلان :
"لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان... دون تمييز من أي نوع ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر".
وهذه الحقوق متعددة يصعب حصرها، تبدأ بحق الإنسان في الحياة، وما يترتب عن هذا الوجود من حقوق كحق تمتع الفرد في المحافظة على شرفه وكرامته وحرية الاعتقاد، وحق الإنتاج الفكري والأدبي...
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma