معنى الأحوال الشخصية وتطور ظهورها
معنى الأحوال الشخصية
إن عبارة الأحوال الشخصية من المصطلحات القانونية الجديدة التي ظهرت لدى فقهاء الغرب للدلالة على مجموعة الأوصاف التي يتميز بها كل فرد عن سواه، والتي ترتبط به ارتباطاً مصيرياً: فهي أوصاف ذاتية، صدرت عن معطيات، أوجبت حقوقاً والتزامات. فالاسم والأهلية والزواج أمور تظهر منها ذاتية صاحبها وخصوصياته، وهي ألصق ما تكون ترجمة عن معتقداته وتصوراته في الكون والحياة.
وقد استخدم فقهاء الغرب هذه العبارة، لتمييز تلك الأحوال عن سائر نشاطات المرء الحياتية، وخاصة في أمواله وتعاقداته.
جاء في الموسوعة العربية الميسرة تحت لفظ أحوال شخصية ما نصه:
(مجموعة ما يتميز به الإنسان عن غيره من الصفات الطبيعية أو العائلية التي رتب القانون عليها أثراً قانونياً في حياته الاجتماعية مثل كونه ذكراً أو أنثى وكونه زوجاً أو أرمل أو مطلقاً أو أباً أو ابناً شرعياً أو كونه تام الأهلية أو ناقصها لصغر سن أو عته أو جنون أو كونه مطلق الأهلية أو مقيدها لسبب من أسبابها القانونية.
الأحوال العينية والأحوال الشخصية
وقد ظهرت هذه العبارة، مع اشتداد حركة التجارة وتنقل الأشخاص في بلدان أوروبا المختلفة في العصور الوسطى، إذ كان لكل مدينة أو مقاطعة حكمها الذاتي وقوانينها الخاصة بها التي قد تختلف بكثير أو قليل عن أنظمة المدينة الأخرى. فكان لا بد للمشتغلين في الدراسات الحقوقية والفقهية من فصل بين حالات المرء المختلفة. فجعلوا للحالة الشخصية - كما هي معرفة أعلاه- قوة تنتقل مع المرء حيثما ذهب، وترافقه كظله الذي لا ينقطع. وأطلقوا على ما يتعلق بالعقارات مثلاً الأحوال العينية Identity وأعطوها قوة تشدها إلى مكانها فتسري عليها دوماً أحكام ذلك المكان.
نابليون جاء بهما معاً
وعند استقرار تلك الدراسات وانتشارها، أدخل علماء القانون وواضعوه تلك الحالات جميعها في قانون واحد بغيتة إظهار العمومية والشمول فيه، وإلزاماً لكافة فئات الأمة به. ولعل أول قانون - في بلاد الغرب- كانت فيه هذه الوحدة، هو ما يعرف بقانون نابليون.
بيد أن الفرنسيين، في معرض دراستهم للقانون المدني، درجوا على تقسيم مواضيعه إلى عدة أقسام، في مقدمتها موضوع الأشخاص الذي يعالج أحوال الأشخاص ومقامهم وأهليتهم. وإن دلت هذه الدراسة التقسيمية الموضوعية فإنها تدل على رسوم مسألة الأحوال الشخصية في المفاهيم الحقوقية.
هذا في الغرب.
الإسلام قبل نابليون، أوجد الفقه المتكامل
أما في الشرق، حيث بدأت الدراسات القانونية فيه، حين سطع الإسلام بنوره على آفاق الدنيا، فقد بدأ الفقه بداية متكاملة لوحدة مصدره. ولشموله كافة موضوعات الحياة في حلقات متصلة. وهكذا تدرج الفقه من مبحث العبادات، إلى مبحث المعاملات، إلى مبحث الدولة والأحكام، وانتقل من الصلاة إلى البيع إلى الزواج إلى العقوبات.. وفي ذلك التبويب مغزى، وهو أن جميع الأمور تنظمها شرعة واحدة فلا انفصال بين عبادة ومعاملة ولا بين وزارة وأسرة أو بين راع ورعية، فكل هذه الإعتبارات تخضع لتصور واحد ومنهج واحد.
رافقت وحدة الفقه هذه، وحدة في القضاء، فكان القضاء، في مختلف مراحل الدولة الإسلامية، قضاء واحداً، فلا تفرقه بين قضاء شرعي وآخر مدني. فما يطلق عليه (الأحوال الشخصية) (والأحوال المدنية) هو في عرف الفقه (أحوال إسلامية) مصدرها واحد ومشرعها واحد.
التسامح الإسلامي
غير أن إشكالا قد وُجدَ بالنسبة لمن لا يخضع لهذا التصور. فالإسلام لم يجز إكراه غير المسلمين على اعتناقه، الأمر الذي أوجد عدة فئات في الأمة الواحدة. ممن لا يدينون بدين الغالبية العظمى إلا أن هذا الإشكال قد واجهه التصور الإسلامي بقوة وعناد. فقد أقرهم على ما هم عليه، ومنحهم حريات واسعة في مختلف قضاياهم، الأمر الذي حافظ على وجودهم واستقلالهم الذاتيين في رحاب الأمة بأسرها
لغير المسلمين: الشريعة قانون
ولما لم يكن لغير المسلمين تشريع في كتبهم المقدسة، إلا في بعض المسائل الطفيفة كان من الطبيعي أن يحتكموا إلى شريعة الأمة. وهكذا أخذت الشريعة الإسلامية التي تعتبر بالنسبة للمسلمين دينا ً، تتصف بقانون الدولة لغير المسلمين في غير مسائل الزواج وتوابعه. تلك المسائل التي راحت تستقر، عبر الزمن. على أنها سر من أسرار الكنيسة، يتعين على المسيحيين التقيد بها والتزامها.
يقول الأستاذ صبحي المحمصاني: من الثابت أن الإسلام، وإن كان ديناً وشريعة موجهين إلى جميع الناس والعالمين، إلا انه أقر حرية العقيدة بأوسع معانيها، ومن آثار ذلك أن الإسلام سمح لأهل الكتاب، لا سيما المسيحيين واليهود، ببناء كنائسهم ومعابدهم، وإقامة شرائعهم الدينية، وعاقب الاعتداء عليهم، فلذا أجازت الشريعة للكتابية التي تتزوج مسلماً أن تبقى على عقيدتها وأن تذهب إلى كنيستها، من دون أن يكون لزوجها حق في منعها عن ذلك.
(ثم أن الإسلام أقر المساواة بين المسلمين وأهل الكتاب، من حيث الحقوق والواجبات بوجه عام، ومن حيث تطبيق القانون واختصاص القضاء. فالإسلام لم يتعرف إلى الجنسيات ولا إلى عدم المساواة القانونية بسبب الدين. ولكنه فرق بين دار الحرب ودار الإسلام.
فدار الحرب دار الاعتداء، والمحارب أجنبي بطبعه. أما دار الإسلام، فدار السلام. ومن أقام فيها، سواء كان مسلماً أم غير مسلم، هو مسالم ومواطن. يتمتع بجميع حقوق المواطن ويخضع لجميع واجباته، بشرط أن تتأيد صفة المسالمة بعقد الذمة. وهو عقد فردي أو جماعي يعقد بين الدولة الإسلامية وبين أتباع الملل المعترف بها، لا سيما المسيحية واليهودية. ومآله تمتع هؤلاء بحماية أنفسهم وأموالهم وحرياتهم لقاء جزية يدفعونها إلى الدولة. وكانت هذه الجزية ثمناً للحماية. وثمناً للإعفاء من واجب الخدمة العسكرية.
(وقد كان الخلفاء والولاة أحياناً يعلنون عهد الذمة بصورة عامة لأهل مدينة معينة أو مصر بكامله. ومن أشهر هذه العهود عهد عمر بن الخطاب، وعهد واليه أبي عبيدة إلى نصارى الشام. وكذلك اشتهرت من العهود التاريخية العامة عهود أخرى، وشاعت حتى أصبحت صيغتها جميعاً متشابهة).
مجلة الأحكام العدلية 1879
وكانت قاعدة المساواة تستتبع وحدة القانون والقضاء مبدئياً، مع تخيير أهل الذمة بالاحتفاظ بمحاكمهم وقوانينهم الدينية. وهذا التخيير من فروع حرية العقيدة. لا سيما في مسائل العائلة وسائر الأحوال الشخصية، إذ أن الكنيسة تتعاطى مراسيم الزواج وما شاكلها وتعتبرها تابعة لأمور العقيدة). حتى إذا ما قامت الدولة العثمانية ورغبت في القرن التاسع عشر في جمع لمواد الفقه الإسلامية في تنظيم واحد وجدت الحقيقة السالفة الذكر وهي أن غير المسلمين يخضعون كالمسلمين في المعاملات والعقود لأحكام الشريعة الإسلامية وإن ما يختلفون فيه هو في أمور زواجهم وعباداته... فالمسلمون يطبقون الشرعية الإسلامية في هذين الأمرين وغيرهم يطبق شرائعهم الخاصة. فقررت بناء على ما تقدم إعلان أحكام المعاملات كأنظمة يساس بها مختلف رعايا الدولة فكانت مجلة الأحكام العدلية في سنة 1879 وقننت هذه المجلة الفقه الإسلامي المتعلق بالمعاملات بمواد مرقمة تشبهاً بالقوانين الأوروبية فكان في هذا العمل فصل للأحوال الشخصية عن سواها وكان الأول من نوعه في الدولة الإسلامية.
يقول الدكتور صبحي المحمصاني (لم تدون الدولة العثمانية في مجلة الأحكام العدلية مسائل الأحوال الشخصية... ويعود السبب في ذلك إلى الخلاف الكبير الواقع في بعض هذه المسائل وإلى اعتبار هذه المسائل مرتبطة بحرية العقيدة وبالقانون الديني وإلى تعدد الملل والطوائف في المملكة العثمانية وإلى سياسة التسامح التي دفعت الدولة إلى أن تترك لغير المسلمين حريتهم في أمورهم المذهبية).
أحكام العائلة 1917
ويقول (... إن مسائل الأحوال الشخصية بقيت من دون تدوين حتى 1917م إذ أصدرت الدولة قانوناً لأحكام الزواج والفرقة للمسلمين والمسيحيين والموسويين كل بحس شرائعهم وتقاليدهم وأسمته قانون حقوق العائلة وذكرت في أسبابه الموجبة ضرورة إلغاء المحاكم الروحية التي لا تخضع لرقابة الدولة وضرورة تدوين أحكام العائلة على أسس ثابتة وفاقاً لتقاليد الطوائف المختلفة.
ويتضح من الأسباب الموجبة هذه أن الدولة العثمانية في أخريات أيامها سادتها قناعة بوجوب إخضاع كافة ا لمحاكم في الدولة إلى سلطاتها حتى المحاكم الروحية التي كانت حتىصدور 0 هذا القانون ذات استقلال كامل. والمحاكم الروحية المقصودة هنا محاكم غير المسلمين. أما محاكم المسلمين الشرعية فهي محاكم نظامية تابعة للدولة ولها إشراف كامل عليها.
التمزق
وبعد تمزق الأمبراطورية العثمانية وانسلاخ البلاد العربية عنها وانقلابها إلى دولة تركية علمانية تطورت قضية الأحوال الشخصية كما يلي:
تركيا وانقلاب أتاتورك
"إن الحياة في تقدم، والحاجات في تغير سريع لذا فقد أصبحت ضرورة حصر الأديان في النطاق الضميري أحد مبادئ المدنية العصرية، وإحدى المميزات بين المدنيتين القديمة والجديدة ففي جميع القوانين الغربية التي ذكرنا المبدأ هو الفصل الكامل والقطعي بين الدين والدولة فبفضل قوانيها المدنية تمكنت سويسرا وألمانيا وفرنسا من تأسيس وحدتها السياسة والقومية وتطوير اقتصادياته.
"وفي الدول الحاوية مواطنين تابعين لأديان مختلفة فإن واجب فصل الدين يفرض نفسه بقوة أكبر وإلا فلا يمكن إصدار قوانين قابلة التطبيق على المجموعة بكاملها ومن جهة أخرى، فإن إيجاد قوانين لكل أقلية طائفية على حدة يفصم عرى الوحدة الوطنية والاجتماعية".
العرب حافظوا على الأحوال الشخصية الإسلامية
أما الدول العربية فقد حافظت على القيم الدينية في الأحوال كما جاءت معظم قوانيها الشخصية متفقة وتعاليم الإسلام في هذ1المجال فحافظت تلك القوانين، على الشريعة الأسرية الإسلامية، كما حافظت على حرية غير المسلمين في تزاوجهم وفق عاداتهم وطقوسهم.
ففي مصر ومنذ حكم محمد علي مصر - كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه الأحوال الشخصية ص 8 وما يليها، اقتصر القضاء في آخر الأمر على المذهب الحنفي ووقت ان كان القضاء يسير على أحكام الشرعية الإسلامية كان يقضي بهذا المذهب في كل الوقائع سواء أكان ذلك يتعلق بنظام الأسرة أم بنظام المدنية أم يتصل بمعاملات الناس بعضهم مع بعض.
"ولقد تواردت بعد ذلك القوانين الأوروبية على مصر وصار القضاء بها في المعاملات المالية وصارت هي مصدر الزواجر الاجتماعية وتنظيم الدولة في عامة شؤونها ومنذ ذلك الحين اقتصر العمل بمذهب أبي حنيفة على شؤون الأسرة سواء أكان في الزواج أم في توزيع الثروة بين آحادها أو ما يقارب ذلك".
"ولكن تطبيق المذهب الحنفي وحده في مصر قد صحبه أمران ضج بالشكوى منهما ذوو الفكر في مصر أحدهما شكلي وثانيهما موضوعي. فأما الشكلي فهو أن القضاة كانوا يعتمدون في أقضيتهم على قانون غير مسطور لم تدون مواده ولم تجمع فروعه تحت كليات جامعة وترك للقضاة أن يبحثوا عن أرجح الأقوال في المذهب".
"وأما العيب الموضوعي فهو أن العمل بمذهب أبي حنيفة قد كشف عن مسائل ليس في الأخذ بها ما يتفق مع روح العصر وفي غيره من المذاهب ما يوافق روح العصر أكثر منه..
"لهذين العيبين اتجه المصلحون... إلى العمل على تسطير قانون للأسرة يستنبط من المذاهب الأربعة المشهورة ويختار منها بحيث يؤخذ من كل مذهب ما يكون أصلح للناس وأقرب إلى روح العصر".
أما في سورية فقد أجمع المهتمون بإصلاح الأسرة - كما يقول الدكتور مصطفى السباعي في كتابه شرح قانون الأحوال الشخية السوري (ص 10 وما يليها)- والذي يتولون وظائف القضاء الشرعي ومحاكمه، على وجوب وضع منظم للأحوال الشخصية. يشمل شتى أبحاثها ويكون مأخوذاً من المذاهب الإسلامية من غير تقيد بمذهب معين.. إذ أن قانون حقوق العائلة (العثماني) لم يرفع أسباب الشكوى من عدم تقنين الأحوال الشخصية ومن التقيد بمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فيما عدا ما نص عليه القانون المذكور.. ذلك أن الرجوع إلى كتب الفقه واختيار الأرجح من الروايات لا يتيسر إلا لذوي الاختصاص.
وقد استجابت وزارة العدل السورية لهذه الحاجة الملحة فألفت سنة 1951 لجنة من كبار العلماء قامت بتحضير مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي صدر ونشر بتاريخ 27/9/1953م.
وفي العراق صدر سنة 1948م قانون باسم (لائحة قانون الأحوال الشخصية) وأحكامه مأخوذة من المذهب الحنفي وفيه أيضاً تدوين أحكام المذهب الجعفري لتعمل به المحاكم الشرعية الجعفرية.
في تونس صدر قانون مجلة الأحكام الشخصية سنة 1956 وهو مشابه للقانون السوري في أكثر موضوعاته ومباحثه.
أما الأردن والمغرب فقد اقتصروا على تدوين أحكام الزواج وانحلاله فصدر في الأول قانون لهذا الغرض سنة 1951م وفي الثاني سنة 1957م.
في لبنان: الطوائف محمية في اعتقادها وأحوالها
أما في لبنان فقد نص دستوره الصادر سنة 1926 في المادة التاسعة منه على ما يلي:
"حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية".
الفَصل الأول
الباب الأول
ما تتضمنه الأحوال الشخصية في الشريعة والقانون
المبحث الأول: مقدمات العقد من النظر والخطبة وما يتعلق بها من أحكام
تعريف الخطبة:
لما كان الزواج من أخطر العقود لأنه عقد الحياة، فيه من التكاليف والالتزامات ما ليس في غيره وتترتب عليه آثار عديدة، كثبوت النسب وحرمة المصاهرة وغير ذلك زادت عناية الشارع به فجعل له مقدمة نظمها وبيَّن أحكامها تسمى بالخطبة ليكون المتزوج على بينة من الطرف الآخر، ويتحقق لهما بهذا العقد الراحة والسعادة البيتية.
تعريف الخِطبة: والخِطبة هي أن يتقدم الرجل إلى امرأة معينة تحل له شرعاً أو إلى أهلها ليطلب الزواج بها بعد أن توجد عنده الرغبة في زواجها، فإذا أجيب إلى طلبه تمت الخطبة بينهما.
المبحث الأول في النظر إلى المخطوبة:
ولتكون الخطبة محققة غايتها أباح الشارع النظر إلى المخطوبة مع كونها أجنبية يحرم النظر إليها، بل أمر به ورغب فيه مبيناً الحكمة التي تترتب عليه.
عن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" متفق عليه.
أي أجدر وأدعى أن يحصل الوفاق والملاءمة بينكما.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها". رواه ابن ماجه وأحمد.
وعن جابر قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". رواه أبو داود وأحمد.
فهذه الأحاديث وغيرها تبيح النظر، ولكنها لم تحدد ما ينظر إليه منها ومن هنا جاء اختلاف الفقهاء في بيانه:
فذهب الجمهور منهم إلى أنه يباح له النظر إلى وجهها وكفيها معللين ذلك، عن جمالها، وحالتها النفسية التي تنطبع على تقاسيمه، كما ينبئ بأن هذا القدر كاف في التعرف، لأن الوجه ينبئ الكفان عن حال الجسم من خصوبة أو هزال.
وذهب بعض الحنفية إلى زيادة القدمين.
وذهب الحنابلة إلى زيادة الرقبة.
وكما يباح للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته كذلك يباح لها الأخرى النظر إلى من خطيبها لتوافق على خطبته عن رغبة ورضى.
وقت النظر:
ولا بأس بأن ينظر إليها قبل الخطبة وبعدها، لأن النظر إليها قبل الخطبة يدعوه إلى إعلان خطبتها إذا ما صادفت في نفسه قبولاً، والنظر بعدها يؤكد هذه الرغبة بعد إعلانها.
ويحسن أن يكون مع النظر محادثة كل منهما للآخر ليكشف له مقدار تفكيرها وعذوبة حديثها بشرط أن يكون مع وجود أحد محارمها كأبيها أو أخيها أو عمها أو خالها حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى مفسدة، ولا بأس من تكرار ذلك بهذا الشرط.
أما ما وراء ذلك من الخلوة بها والخروج معها ومصاحبتها إلى دور اللهو والمنتزهات فباق على تحريمه.
المبحث الثاني: من تباح خطبتها:
إذا كانت الخطبة وسيلة إلى الزواج فيجب ألا تكون المرأة المراد خطبتها محرماً عليه زواجها، لأن الغاية إذا كانت حراماً كانت الوسيلة كذلك والاشتغال بها عبث لا فائدة فيه.
من أجل ذلك قرر الفقهاء أنه لا تجوز خطبة امرأة محرمة عليه تحريماً مؤبداً بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة، كأخته من النسب أو الرضاع وزوجة الأب أو الأبن وأم الزوجة أو بنتها وسائر المحرمات على التأبيد.
وقد وضع الفقهاء قاعدة لمن تجوز خطبتها فقالوا: إن من يجوز الزواج بها في الحال تجوز خطبتها.
فالمعتدة من طلاق رجعي لا تجوز خطبتها بالاتفاق، لأن زوجيتها لا تزال قائمة، وحق الزواج في مراجعتها قائم، فله مراجعتها في أي وقت قبل انتهاء عدتها رضيت أم كرهت، فتكون كالزوجة من كل الوجوه
فتحرم خطبتها بأي شكل تصريحاً كانت أو تعريضاً، لما في ذلك من إيذاء لزوجها أو إثارة للنزاع بينه وبين من خطبها، ولا يجوز ذلك حتى ولو أذن الزوج في تلك الخطبة لأن حق الشارع في المنع قائم فلا يجوز إهداره.
أما المعتدة من طلاق بائن بينونة صغرى أو كبرى:
فذهب الحنفية: إلى أنه لا تجوز خطبتها، لا تصريحاً ولا تعريضاً لأن الطلاق البائن إن قطع رباط الزوجية إلا أن بعض آثاره باقية، وهذا كافٍ في منع خطبتها لئلا يؤدي ذلك إلى إثارة النزاع بين مطلقها وبين من خطبها.
ومن ناحية أخرى: إن إباحة خطبتها قد يحملها على ارتكاب محظور إذا رغبت في زواج من خطبها- فتقر بانقضاء عدتها في مدة زاعمة أنها حاضت فيها ثلاث حيضات، وتصدق في ذلك الأقرار، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتها وليس لأحد سلطان عليها، بخلاف المتوفى عنها زوجها فان جواز التعريض في حقها لا يؤدي إلى هذا المحظور حيث تعتد بوضع الحمل إن كانت حاملا أو بأربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً.
وذهب الجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى أنه لا يجوز خطبتها تصريحاً مراعاة لجانب الزوج المطلق، لأنها معتدة منه، وقد يثور النزاع بينه وبين من خطبها، وجوزوا خطبتها بطريق التعريض لانقطاع الزوجية بالطلاق البائن وهو كاف في جواز التعريض الذي لا يثير النزاع بينه وبين مطلقها.
أما المعتدة عن وفاة زوجها فقد اتفقت كلمة الفقهاء فيها على أنه لا تجوز خطبتها تصريحاً وتجوز خطبتها بطريق التعريض.
يدل لذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 234 -235].
فهذا النص الكريم يبين عدة المتوفى عنها زوجها، والأحكام المتصلة بها، ورفع الجناح عن التعريض بخطبتها في العدة، ونهى عن المواعدة بالنكاح "ولكن لا تواعدوهن سراً" وهو الخطبة الصريحة، ثم نهى عن العقد عليها حتى تنتهي عدتها، والمراد بالنساء هن المتوفى عنهن أزواجهن بدليل سياق الكلام فيقتصر الاستثناء على موضعه.
والسر في إباحة التعريض: أن الزوجية قد انقطعت بالوفاة، ولا أمل في عودتهما فليس هنا زوج يتضرر من هذا التعريض، وقد يكون في ذلك عزاء لهذه المرأة التي فقدت عائلها، فلا ينقطع أملها في الحياة الكريمة في ظل زوج كريم.
وأما منع التصريح فمراعاة لجانب المرأة من ناحية أخرى، وهو إحدادها على زوجها، فلو أبيح التصريح لحمل المرأة على التزين وترك الإحداد. على أن الزوج لا يعدم أن يكون له أقارب يلحقهم الأذى بهذا التصريح.
أثر تلك الخطبة المحرمة:
عرفنا أن الفقهاء متفقون على تحريم الخطبة في الحالات السابقة لعدم توفر شرط صحتها. وهو كون المرأة ممن تحل له عندها.
فإذا فرض وأقدم شخص على خطبة واحدة منهن كان مرتكباً أمراً محرماً يعاقب عليه في الآخرة، ولو عقد عليها في العدة كان العقد باطلا. أما إذا عقد عليها بعد انتهاء عدتها بناء على الخطبة السابقة كان العقد صحيحاً وتترتب عليه آثاره على الأصح عند الجمهور.
المبحث الثاني
الخطبة على الخطبة:
قد تكون المرأة متوفراً فيها شرط صحة الخطبة. وهو كونها ممن تحل له في الحال، غير أنه عرض لها وهو أن غيره سبقه إلى خطبتها، ففي خطبتها اعتداء على الخاطب الأول.
وهذه الخطبة ورد النهي عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر". رواه مسلم وأحمد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك "رواه البخاري.
فهذه الأحاديث تفيد تحريم الخطبة على الخطبة لظاهر النهي والتعبير بلا يحل، وإذا كان النهي مسلطاً على الخطبة على خطبة الغير منعاً لما يترتب عليها من إثارة النزاع وهذا يصدق من غير شك على من أجيبت خطبته وقبلت رغبته.
أما من رفضت خطبته فلا يشملها النهي، ومثلها في ذلك ما إذا أذن الخاطب الأول للثاني كما صرحت به بعض الأحاديث، لأننا لو منعنا خطبتها لغير الأول لألحقنا بها الضرر البالغ، وهذا ما لا يقصده الشارع.
ولأن الخطبة في هذه الحالة لا تسمى خطبة على خطبة، لأن المرأة لا تسمى حينئذ مخطوبة للخاطب الأول.
أما إذا لم يفصل في الخطبة الأولى برأي لا بقبول ولا برفض. وهي حالة التردد والسكوت فهل تدخل في ذلك ويكون منهياً عنها أو لا؟.
اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين:
أولهما: وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك وغيرهما، أن الخطبة في هذه الحالة ممنوعة، لأن الأحاديث الناهية تتناولها حيث أن الأول يسمى خاطباً والمرأة مخطوبة له، وهذا السكوت من جانبها وان لم يدل على الرضى بالخاطب فهو لا يدل على الرفض، لاحتمال وجود أصل الرغبة، والسكوت للتحري عن الخاطب ليتحقق الاطمئنان الكامل والرغبة التامة، فإباحة الخطبة الثانية في هذه الحالة قد يترتب عليها زوال تلك الرغبة ورفض خطبة الأول وهو نوع اعتداء عليه والله لا يحب المعتدين.
وثانيهما: وهو أحد الرأيين عن الشافعية إباحة هذه الخطبة.
أثر هذه الخطبة في العقد المترتب عليها:
إذا خطب شخص مخطوبة غيره وعقد عليها فهل يكون لهذه الخطبة المنهى عنها أثر في صحة العقد؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
ذهب الحنفية والشافعية إلى أنها لا تؤثر في العقد قضاءً، على معنى أن القاضي لا يحكم بفسخه وينفذه، إنما أثرها ديني فقط حيث إنه ارتكب أمراً منهياً عنه فعقابه أخروي، لأن هذه المخالفة لم تكن في نفس العقد، بل في وسيلته وهي لا تؤثر فيه، لأنها ليست جزءاًمن العقد ولا مقدمة لازمة فيه، فلو عقد شخص عقد الزواج دون أن يتقدم عليه خطبة كان عقده جائزاً شرعاً.
وذهب المالكية في الرأي المشهور عنهم إلى التفصيل بين حالتي الدخول وعدمه، فيقولون: إن هذه الخطبة تؤثر في العقد قبل الدخول لا بعده. بمعنى أن القاضي إذا علم به قبل الدخول فسخه، لأن هذا العاقد تعدى ما ندبه الشارع إليه، وإذا علم به بعد الدخول فلا فسخ، لأن العقد تأكد بالدخول فلا يجوز فسخه لما يترتب عليه من إضرار.
المبحث الثالث
العدول عن الخطبة وما يترتب عليه:
أثر العدول عن الخطبة:
إذا عدل أحد الطرفين عن الخطبة أو كلاهما فما الأثر المترتب على ذلك بالنسبة لما قدمه الخاطب من مهر أو هدايا، ولما لحق أحد الطرفين من أضرار يعرف ذلك بالتفصيل الآتي:
أما بالنسبة لما قدمه الخاطب من مهر أو هدايا، فلا خلاف بين الفقهاء في أنه يجب رد ما قدمه من مهر قليلاً كان أو كثيراً، لأن المهر وجب بالعقد، فهو حكم من أحكامه وأثر من آثاره، وما دام الزواج لم يوجد فلا حق لها في أخذ المهر، بل هو حق خالص للزوج، فإن كان قائماً أخذه بعينه، وإن هلك أو استهلك أخذ مثله إن مثلياً أو قيمته إن كان قيمياً.
وأما ما قدمه من هدايا، فالفقهاء متفقون في الجملة على ردها وإن اختلفوا في التفصيل:
ذهب الشافعية إلى وجوب الرد مطلقاً باقية أو غير باقية، فإن كانت موجودة ردت بعينها، وإن هلكت أو استهلكت وجب رد مثلها أو قيمتها سواء كان العدول من قبله أو من قبل المخطوبة أو منهما معاً.
وذهب الحنفية إلى وجوب ردها إن كانت موجودة في يدها من غير زيادة متصلة بها لا يمكن فصلها، فإن هلكت كعقد فقد أو ساعة تكسرت أو استهلكت كطعام أكل أو ثوب لبس وبلي، أو زادت زيادة متصلة لا يمكن فصلها كقماش خيط ثوباً، أو خرجت عن ملكها بأن تصرفت فيها ببيع أو هبة لا يجب ردها في جميع تلك الصور، لأنهم أعطوا الهدية حكم الهبة، والهبة يمتنع الرجوع فيها بموانع منها الهلاك والاستهلاك والخروج عن الملك والزيادة المتصلة التي لا يمكن فصلها.
والمالكية في أصل المذهب عندهم لا رجوع بشيء مما أهداه الخاطب ولو كان الرجوع من جهتها، ولكن الفتوى في المذهب برأي آخر عندهم هو الأوفق كما يقولون يفصلونه على الوجه الآتي:
إن كان هناك عرف أو شرط بالرد وعدمه يعمل به، وان لم يكن شرط ولا عرف، فإن كان العدول من الخاطب فلا يجوز له الرجوع في شيء من هداياه، لأنه آلمها بعدوله عن خطبتها، فلا يجمع عليها مع هذا الإيلام إيلاماً آخر. وإن كان العدول منها وجب عليها رد ما أخذته بعينه إن كان قائماً أو مثله أو قيمته إن كان هالكاً، لأنه لا وجه لها في أخذه بعد أن آلمته بفسخ خطبته.
ولأن ما قدمه لها لا يمكن اعتباره هبة مطلقة، بل هو هبة مقيدة فانه لولا الخطبة الموصلة للزواج ما قدم لها شيئاً، فإذا لم يتحقق الزواج لم يتحقق الغرض الذي من أجله قدم الهدايا.
والعدل يقضي بأن المتسبب في منع الزواج هو الذي يتحمل نتيجة عمله.
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma