المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي في ظل قانون العقوبات الجزائري
المقدمة
الفصل التمهيدي: ماهية المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي
المبحث الأول: مفهوم الشخص المعنوي
المطلب الأول: تعريف الشخص المعنوي
المطلب الثاني: عناصر ومقومات الشخص المعنوي
المبحث الثالث: تطور فكرة المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي
المطلب الأول: الجدل الفقهي حول طبيعة الشخص المعنوي محل المساءلة
المطلب الثاني: الاتجاه التشريعي حول فكرة المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي
الفصل الأول: مجال تكريس مبدأ المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي في ظل تعديل قانون العقوبات والإجراءات الجزائية
المبحث الأول: الأشخاص المعنوية المعنيةبهذه المسؤولية
المطلب الأول: الأشخاص المعنوية العامة
المطلب الثاني: الأشخاص المعنوية الخاصة
المبحث الثاني: الجرائم المرتكبة في إطار المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي
المطلب الأول: الجرائم الواقعة على الأشخاص
المطلب الثاني: الجرائم الواقعة على الأموال
المبحث الثالث: شروط قيام المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية
المطلب الأول: ارتكاب الجريمة لحساب الشخص المعنوي
المطلب الثاني:ارتكاب الجريمة من طرف جهاز أو ممثل الشخص المعنوي
الفصل الثاني:النظام العقابي المستحدث لتطبيق المسؤولية الجزائيةللشخص المعنوي
المبحث الأول: الأحكام الإجرائية الخاصة بالمتابعة الجزائية للأشخاص المعنوي
المطلب الأول: الاختصاص القضائي
المطلب الثاني: إجراءات المتابعة الجزائية للشخص المعنوي
المبحث الثاني: الجزاءات المطبقة على الشخص المعنوي
المطلب الأول: العقوبات المطبقة على الشخص المعنوي
المطلب الثاني: التدابير المتخذة في مواجهة الشخص المعنوي
المبحث الثالث: مجال تطبيق العقوبة على الأشخاص المعنوية
المطلب الأول: وقف تنفيذ العقوبة
المطلب الثاني:الإعفاء من العقوبة أو تأجيل النطق بها
الخاتــــمة
مقدمــــــة:
إن المسؤولية الجزائية باعتبارها مسؤولية قانونية يقصد بها ثبوت الجريمة إلى الشخص الذي أرتكب فعلا غير مشروع يصبح بمقتضاه مستحقا للعقوبة التي قررها القانون [1].
وإذا كان محل المساءلة الجزائية قديما هو الإنسان " الشخص الطبيعي" فإن قيام جماعة الأفراد إلى جانب هذا الأخير لتحقيق ما يعجز عنه بمفرده خدمة له ولغيره، جعلها ذات كيان مميز عن كيان الأفراد الذي تتكون منه، إذ أنها لم تغن بغناء أحدهم وظهرت بالتالي فكرة الشخص المعنوي أو الإعتباري التي أفرزت عدة نظريات قانونية بعضها أعتبر ه شخصية افتراضية، والبعض الآخر حقيقة، وثالث جعل منه تق نيه قانونية، لينتهي الأمر إلى الاعتراف بالشخص المعنوي كطرف للحق متمتع بالشخصية القانونية [2].
وإذا كان الشخص المعنوي في الماضي يلعب دورا محدودا في الحياة الاجتماعية فإن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية في العصر الحديث أدت إلى انتشار هذه الأشخاص واتساع نطاق نشاطاتها وأصبحت تقوم بدور على درجة كبيرة من الأهمية في مختلف المجالات وتتملك العديد من الإمكانيات والوسائل الضخمة والأساليب الحديثة لاستخدامها فيما تمارسه من أنشطة، وبالتالي فكما بإمكانها تحقيق فوائد كبيرة للمجتمع والأفراد على السواء فإن بعضها قد يقع في الأخطاء وقد يرتكب أفعالا تلحق أضرار إجتماعية جسيمة تفوق الكثير الضرر الذي يحدثه الشخص الطبيعي عندما يرتكب جريمته نظرا لما يتمتع به من إمكانيات ووسائل.
و قد أدى هذا الانتشار إلى اتساع الجرائم المرتكبة الواقعـة منها على الأشخـاص أو الأموال، كالمساس بأنظمة المعالجة الآلية للمعطيات، تكوين جمعيات الأشرار، تبييض الأموال، وأضحى الشخص المعنوي غطاء يتستر به لإرتكاب أفعال مضرة بأمن الدولة في الداخل أو الخارج عن طريق ممثليه الذين يقومون بالتصرفات والأعمال المادية بإسمه ولحسابه الخاص.
وإذا كانت معاقبة الأشخاص الطبيعيين عن الأفعال التي ترتكب من قبلهم أثناء تأدية أعمالهم لدى الشخص المعنوي لا تكفي بمكافحة مثل هذه الجرائـم، فإنـه كان ينبغـي علـى الفقــه إعادة النظر في مساءلة الشخص المعنوي مدنيا و جنائيا.
وإذا كان الفقه والقانون قد أعترف بالمسؤولية المدنية للشخص المعنوي على أساس المسؤولية التقصيرية، فإن فكرة مساءلة هذا الأخير جزائيا ظلت إلى عهد قريب محل جدل فقهي واختلاف قضائي، إذ أن التشريعات الحديثة خاصة في القوانين ذات النظام اللاتيني و التي يؤيدها جمهور الفقه، ظلت ترفض فكرة إقرار المسؤولية الجزائيـة للشخص المعنوي على أساس أنه من شروطها توافر الإرادة والتمييز في حين أنه يفتقد لهذين الشرطين.
فيما ذهبت التشريعات الأنجلو ساكسونية التي كان لها فضل السبق في الاعتراف بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي مادام بالإمكان مساءلته مدنيا وهو لا إرادة له معتبرين أن المنطق يقتضي ذلك.
وقد كان لتضارب الآراء على مستوى الفقه أثره على التشريعات والقضاء، فمنهم من أخذ بهذه المساءلة كمبدأ عام، ومنهم من جعلها في قوانينه كاستثناء، ومنهم من استبعدها جملة وتفصيلا.
وعلى غرار هذه التشريعات، أقر المشرع الجزائري بمبدأ المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية بعد تعاقب القوانين من الرفض الكلي، إلى الإقرار الجزئي، إلى التكريس الفعلي بموجب تعديل قانون العقوبات رقم 04/16 من حيث الجزاء، والقانون رقم 04/15 من حيث الإجراء، متعقبا في ذلك مسار التشريع الفرنسي الذي حسم بقانون 16/12/ 1992 الخلاف الفقهي والتردد القضائي حول مسؤولية الشخص المعنوي جزائيا بنص صريح، بعد مناقشات هامة ومفاوضات معقدة، لينتهي به الأمر إلى الاعتراف بمسؤولية جميع الأشخاص المعنوية باستثناء الدولة، بعد تكرار النصوص الخاصة في قوانين متعاقبة استجابة للضرورات العملية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، مؤكدا ما جاءت به مؤتمرات دولية عديدة في بوخارست، روما، بودبست، والقاهرة... 3.
وأمام هذه التطورات الهامة، كان من الضروري تجسيد هذه المسؤولية على مستوى التشريع والقضاء، لتكييف قانون العقوبات مع التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها بلادنا، قصد التكفل بالأشكال الجديدة للإجرام الناتجة عنها.
لذا تتضح أهمية اختيارنا لموضوع " المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي " من الناحية النظرية أو العملية، في كونه موضوع لا يزال يتسم بالدقة ويثير العديد من المشاكل عند التطبيق، والراجعة أساسا إلى صعوبة ترجمة النصوص وإسقاطها على مفهوم وطبيعة الشخص المعنوي، خاصة وأن القضاء الجزائري لا يزال خام في هذا المجال، مما سيطرح لا محالة في القريب العاجل عدة إشكالات تتطلب الحل السريع، لمواكبة التطورات التي تشهدها بلادنا في جميع المجالات.
لذا فإن الإقرار بمبدأ المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي في التشريع الجزائري خطوة جريئة إلا أنها تتطلب بالمقابل بعض التحليل للإجابة عن بعض المفاهيم الغامضة التي أفرزتها النصوص المستحدثة.
o فمن هو الشخص المعنوي؟
o وكيف يتحدد مجال قيام المسؤولية الجزائية اتجاهه؟
Ø من حيث الشروط الواجب توافرها.
Ø الأشخاص محل المساءلة.
Ø الجرائم موضع المتابعة.
o وما هو النظام العقابي لتجسيد هذه المسؤولية؟
Ø من حيث إجراءات المتابعة.
Ø العقوبات المستحدثة ومجال تطبيقها.
وللإجابة عن هذه التساؤلات، اعتمدنا في عرضنا منهجية تحليلية نقدية مقارنة، وفق ترتيب منطقي، حتى يمكننا الإلمام بقدر الإمكان بمضمون مبدأ تكريس المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي المستحدث بموجب تعديل قانوني العقوبات والإجراءات الجزائية بالموازاة مع ما سار فيه التقنين الفرنسي، إنطلاقا من إستقراء النصوص و التعليق عليها.
بحيث بدأنا البحث بفصل تمهيدي، عنوناه بماهية المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، تطرقنا فيه إلى تحديد مفهوم الشخـص المعنـوي كمحـل للمساءلـة الجزائية، قبل أن نتقصـى التعاقب المرحلي لتطور نظرة كل من الفقه و التشريع الجزائري اتجاه التكريـس الفعلي لهذه المسؤوليـة.
لنفرد الدراسة في الفصل الموالي، للبحث عن مجال هذا الإقرار من حيث الأشخاص محل المساءلة و الجرائم موضع المتابعة مع تحديد الشروط الواجب توافرها.
و نختم بفصل مستقل للحديث عن النظام العقابي المستحدث لتكريس المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، من خلال تحديد الأحكام الإجرائية، الجزاءات المقررة، ومجال تطبيقها .
الفصـل التمهيـدي
ماهيـة المسؤوليـة الجزائيـة للشخـص المعنـوي
إن ما تقدم بشأن مسؤولية الإنسان الحي المدرك المختار عن الجرائم التي يرتكبها، تقره التشريعات الحديثة قاطبة ولا تثير خلافا في الفقه أو القضاء، إلا أن القانون يعرف بجانب الشخص الطبيعي فكرة الشخص المعنوي أو الاعتباري، وهو من الموضوعات التي كانت مثار جدل ونقاش في الفقه والقضاء، وذلك لمعرفة ما إذا كان هذا الأخير باعتباره شخصا مميزا عن ممثله يس أ ل عن هذا الفعل و توقع عليه عقوبة، أي ينسب إليه الفعل على أساس أن صدوره عن ممثله بصفته هذه يعني صدوره منه؟
إن الإجابة على هذا التساؤل يقتضي منا أن نعرض في البداية إلى مفهوم الشخص المعنوي كمحل للمساءلة الجزائية، من خلال التطرق إلى تعريفه وتبيان عناصره ومقوماته (المبحث الأول).
قبل أن نتلمس تطور فكرة المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي من خلال استقراءها في كل من الفقه والتشريع الجزائـري، بداية من مرحلة عدم الإقـرار، إلى الإقرار الجزئـي، فالتكريس الفعلـي لهذا المبدأ في تعديـل كل من قانونـي العقوبـات والإجراءات الجزائيـة (المبحث الثاني)
المبحـث الأول
مفهـوم الشخـص المعنـوي
تفترض الشخصية القانونية وجود أشخاص معنوية إلى جانب الأشخاص الطبيعية كطرف للحق.
فهل يعني ذلك أن الشخص المعنوي كالشخص الطبيعي؟ أم يختلف كل منهما عن الآخر؟
للجواب نعطي لمحة سريعة عن الشخص المعنوي نتعرض من خلالها إلى:
التعريف به (مطلب أول).
استخلاص عناصره ومقوماته (مطلب ثاني)
المطلـــب الأول
تعريــــف الشخــص المعنـــوي
أعطيت الشخصية المعنوية عدة تعريفات:
منها ما قدمه الأستاذ رمضان أبو السعود بقوله: "الشخصية المعنوية ماهي إلا مجموعات من الأشخاص الطبيعية أو الأموال يجمعها غرض واحد، ويكون لهذه المجموعة شخصية قانونية لازمة لتحقيق هذا الغرض، منفصلة عن شخصية المكونين أو المنتفعين بها [3] " .
كما عرفها الدكتور عمار عوابدي بأنها: "كل مجموعة من الأشخاص تستهدف غرضا مشتركا، أو مجموعة من الأموال ترصد لفترة زمنية محددة لتحقيق غرض معين، بحيث تكون هذه المجموعة من الأشخاص أو الأموال كيانا قانونيا " شخص قانوني" مستقلا عن ذوات الأشخاص والأموال المكونة له، له أهمية قانونية مستقلة وقائمة بذاتها لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات باسمه ولحسابه، كما أن هذه المجموعة لها مصلحة جماعية مشتركة ومستقلة عن المصالح الذاتية والفردية لأفراد المجموعة [4] " .
وهناك أيضا من يعرفها على أنها "مجموعة من الأشخاص أو الأموال تتحد من أجل تحقيق غرض معين، ومعترف لها بالشخصية القانونية، وهو كيان له أجهزة خاصة تمارس عملا معينا وأن هذه الفكرة تنتج عنها مجموعة آثار من الناحية القانونية تجعل من هذا الشخص قادرا على إبرام العقود وله ذمة مالية خاصة به، كما يتمتع بأهلية التقاضي، وقد تم اكتشاف هذه الفكرة لإضفاء الشخصية القانونية على مجموعة أشخاص وأموال سواء في مجال القانون العام، كالدولة، الولاية والبلدية، أو القانون الخاص كالشركات والجمعيات [5]".
كما عرفها الدكتور سمير عالية " بأنها تكتل من الأشخاص أو الأموال يعترف له القانون بالشخصية والكيان المستقل، ويعتبره كالشخص الطبيعي من حيث الحقوق والواجبات، وهي متعددة الأشكال إذ من بينها الدولة، المؤسسات العامة، المصالح المستقلة، البلديات، الجمعيات، النقابات، الشركات، وكل مجموعة من الأشخاص أو الأموال يعترف لها القانون بالشخصية المعنوية " [6].
وما يمكن ملاحظته عن هذه التعريفات، أنها تنظر إلى الشخصية المعنوية من زاوية واحدة فتتفق في تعريفها على مجموع العناصر المكونة لها، والغرض الذي أنشئت من أجله، وكذا النتائج المترتبة عن الاعتراف بها.
واجتهادا منا نعرف الشخص المعنوي إجمالا على أنه "مجموعة من الأشخاص والأموال أنشئت من أجل تحقيق أغراض معينة يعجز عن القيام بها في فترة زمنية معينة قد تطول أو تقصر، مما ينتج عنها خلق شخص قانوني متميز ومستقل بذاته عن هؤلاء الأشخاص المكونين له، ويكون أهلا لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات باسمه ولحسابه الخاص " .
وإذا كان ه ذ ا تعريف الشخص المعنوي فما هي عناصره ومقوماته
المطلــب الثانــي
عناصـــر ومقومــات الشخـص المعنــوي
لتكوين الشخص المعنوي يجب توافر عناصر معينة فمنها الموضوعي، المادي، والمعنوي، ويشترط أن تتوافر في كافة أنواع الأشخاص المعنوية، ما عدا العنصر الشكلي فاشتراطه يختلف من حيث هو باختلاف الشخص المعنوي.
أولا/ العنصر الموضوعي:
وهو اتجاه إرادة الأفراد إلى إنشاء الشخص المعنوي، فللإرادة دور فعال في ذلك، فالشركات لا تنشأ إلا بعقد كما جاء في نص المادة 416 من القانون المدني وهو ذاته بالنسبة للجمعية إذ تنشأ بمقتضى اتفاق وفق نص المادة السادسة من قانون الجمعيات [7].
ثانيا/ العنصر المادي :
يتمثل في مجموعة من الأشخاص أو مجموعة من الأموال وفقا لنوع الشخص المعنوي المراد إنشائه، ففي مجموعة الأموال، كشركات المساهمة لا بد من توافر المال وأن يكون كافيا لتحقيق الغرض المقصود إضافة إلى العنصر الشخصي في مجموعات الأشخاص.
ثالثا/ العنصر المعنوي:
يجب أن يكون غرض الشخص المعنوي يهدف إلى تحقيق مصلحة المجموعة، سواء كان هدفا عاما يحقق بذلك المصلحة العامة أو خاصا بجماعة معينة كمصلحة الشركاء في الشركة، ولابد من تحديد الغرض ماليا كان أو غير مالي، إضافة إلى شرط المشروعية وعدم مخالفته للنظام العام والآداب العامة.
رابعا/ العنصر الشكلي:
هذا العنصر مهم جدا في تكوين بعض الأشخاص المعنوية، خاصة منها ما يتطلب فيها القانون الرسمية والشهر أو يلزم الحصول على ترخيص خاص لاكتساب الشخصية المعنوية، كالشركـة اشتـرط أن يكـون عقدهـا مكتوبا في شكل رسمي وإلا كانت باطلــة وفقــا للمادة 418 قانون مدني جزائري، والمادة 545 من القانون التجاري، إضافة إلى الشهر وفق إجراءات القيد في السجل التجاري تبعا لأحكام المادة 417 من القانون المدني.
وبتوافر هذه العناصر يتم الاعتراف بالشخص المعنوي، بعد تدخل المشرع لإنشائها وإعطائها الصبغة القانونية ككيان لموجود قانوني ومحدد وهو ما يعرف بالاعتراف العام، كما يمكن أن يفرد القانون للأشخاص الاعتبارية الذين لا تنطبق عليهم الشروط العامة وصفا خاصا ويتدخل حالة بحالة لإنشاء ها بتشريعات خاصة، وهو ما يعرف بالاعتراف الخاص كما هو الحال بالنسبة للجمعيات [8] .
ويترتب على الاعتراف بالشخصية المعنوية نتائج هامة أشارت إليها المادة 50 من القانون المدني بقولها:
"يتمتع الشخص الاعتباري بجميع الحقوق إلا ما كان منها ملازما لصفة الإنسان وذلك في الحدود التي يقررها القانون يكون لها:
ذمة مالية.
أهلية في الحدود التي يعينها عقد إنشاءها أو التي يقررها القانون.
موطن وهو المكان الذي يوجد فيه مركز إدارتها.
نائب يعبر عنها.
حق التقاضي.
لذلك فمن المسلم به قانونا أن الشخص المعنوي يمكن له أن يتملك الأموال وأن يتعاقد بواسطة من يمثلونه قانونا، وأن يتمتع بكافة الحقوق عدا ما يكون ملازما لصفة الشخص الطبيعي، كما أنه يسأل مسؤولية مدنية سواء في ذلك مسؤولية عقدية أو تقصيرية، ويلتزم في ذمته بدفع التعويضات التي تستحق بسبب ما يرتكبه ممثلوه من أفعال ضارة باسمه ولحسابه، على أساس المسؤولية عن فعل الغير كقاعدة عامة [9] .
لكن قد يرتكب ممثلوا الشخص المعنوي باسمه ولحسابه أفعالا إجرامية، أو يخالفون الغرض من إنشائه، أو يوجهوا نشاطه إلى بعض صور السلوك التي يعاقب عليها القانون.
فإلى أي مدى يمكن مساءلة الشخص المعنوي ذاته باعتباره شخصا قانونيا مستقلا عن الشخص الطبيعي مرتكب الجريمة؟ وبعبارة أخرى هل يسأل الشخص المعنوي عن الجريمة التي ترتكب باسمه ولمصلحته الخاصة ممن يمثله قانونا أو يعمل لديه؟
من السهولة أن نجيب بنعم عن السؤال المطروح، إلا أن تأصيل ذلك صعب لأنه لم يأت من العدم، بل خضع لتطور مستمر سواء في الفقه أو التشريع وهو ما سنعرفه في المبحث الموالي.
المبحـث الثانـي
تطور فكرة المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي
يعد إقرار مبدأ المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية أهم تجديد أتى به تعديل كل من قانوني العقوبات رقم04-15 المؤرخ في 10 نوفمبر 2004، وقانون الإجراءات الجزائية رقم 04-14 الصادر بذات التاريخ.
وإقرار هذا المبدأ لم يأت من فراغ، بل سبقته مناقشات فقهية منذ نهاية القرن الماضي، ووضع قضائي خضع للتطور من إنكار مطلق، إلى محاولة التخفيف من غلو هذا الإنكار، إلى التكريس الفعلي لهذا المبدأ، فضلا عن بعض الاستثناءات التشريعية وردت على المبدأ العام السائد والذي مفاده أن القانون الجنائي لا يطبق إلا على الأشخاص الطبيعيين، والتي من خلالها تبلورت إشكالية المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية في حالة ما إذا ارتكب أحد ممثلي هذا الأخير جريمة باسمه ولحسابه.
فهل يمكن أن يسأل عنها بجانب مسؤولية الشخص الطبيعي؟
الإجابة عن هذا السؤال خضعت للتطور سواء في الفقه أو التشريع وهو ما سنعالجه من خلال هذا المبحث بداية بتحديد:
موقف الفقه من طبيعة الشخص المعنوي "مطلب أول " .
الاتجاه التشريعي المرحلي لتكريس هذه المسؤولية ″مطلب ثاني″
المطلــب الأول
الجـدل الفقهـي حـول طبيعـة الشخـص المعنـوي محـل المساءلـة
لقد ظـل الفقــه طـوال القرن الماضـي يردد القول بعدم مسؤولية الشخص المعنوي جزائيا، إلى أن بدأ في نهاية القرن التاسع عشر وعلى وجه التحـديد في رسالة الفقيــه الفرنسي A Maestre سنة 1899 يعتنق صراحة الفكر ة القائلة بإمكانية مساءلة الشخص المعنوي ج ز ائيا [10] .
ورغم ذلك وخلال القرن العشرين ظل الرأي في الفقه بين مؤيد ومعارض، وإن كان ميدان المعارضة أخذ ينحسر تدريجيا مفسحا المجال لأنصار هذه المسؤولية وللمعارضين والمؤيدين وجهة نظرهم التي أسندوا عليها [11] .
فمؤدي الرأي المعارض الذي دافع عليه على وجه الخصوص فقهاء القرن التاسع عشر، أنه لا يمكن مساءلة الشخص المعنوي جزائيا، ذلك لأن المسؤولية الجزائية تبنى على الإرادة والإدراك أي على عناصر ذهنية لا تتوافر إلا في الأشخاص الطبيعيين.
فعلى مستوى الإسناد، يستحيل من الناحية القانونية أن تسند لشخص معنوي خطأ شخصيا حيث لا يتوافر له وجود حقيقي ولا يتمتع بالإرادة، والمسؤولية الجزائية تستلزم لقيامها خطأ شخصيا يتمثل في إمكانية إسناد هذا الخطأ للشخص الذي ارتكبه [12] .
لذا فالنتيجة المنطقية لهذه الحقيقة، هي أن الشخص المعنوي هو محض خيال Fiction ou personne incorporelle ولا يمكن أن يكون محلا للمسؤولية الجزائية، ذلك أنه إفتراض قانوني إقتضته الضرورة من أجل تحقيق مصالح معينة ولا يتصور إسناد الجريمة إليه من الناحيتين المادية والمعنوية [13] .
وعلى مستـوى العقوبـة، فهنـاك عقوبـات يستحيـل توقيعهـا على الشخص المعنوي كالإعدام والعقوبـات السالبـة للحريـة، وإن أمكن توقيع بعضها فسوف نصيب بلا شــك الأشخاص الطبيعييـن (مساهمين أو أعضاء) وهـؤلاء الأشخاص لا ذنب لهـم في وقـوع الجريمــة، و بالتالــي يؤدي تطبيقها على الشخص المعنوي إلى التعارض مع مبدأ شخصية العقوبة الذي يفيد عدم توقيعها إلا على من ساهم شخصيا في وقوع الجريمة [14] .
بينما يرى أصحاب الرأي المؤيد لإقامة المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي الذي دافع عليه على وجه الخصوص الفقهاء المعاصرون، أن الشخص المعنوي أصبح حقيقة قانونية reality juridique ليست في حاجة إلى إثبات حاليا كما أضحت إمكانية ارتكابه للجرائم حقيقة مؤكدة في مجال علم الإجرام une reality criminologique .
وقد سبق للقانون المدني والتجاري الاعتراف لهذه الجماعات بالشخصية الحقيقية، وحان الوقت ليعترف قانون العقوبات لها بذلك خاصة وأن حياتها المستقلة عن حياة أعضائها تتميز بإرادة ونشاط يختلفان عن إرادة ونشاط مكونيها.
ومن جهة أخرى فإن تنوع العقوبات التي يمكن أن تنزل بالشخص المعنوي من غرامة، مصادرة، إغلاق، وحل لا يشكل عائقا أمام معاقبتها.
لذا أخذت المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي تتبلور شيئا فشيئا، حتى أصبحت حقيقة واقعة في عدد كبير من التشريعات، كإنجلترا منذ سنة 1889، كندا، الولايات المتحدة الأمريكية، إيطاليا، ففرنسا بصدور قانون العقوبات الجديد بتاريخ 16/12/1992، ومن البلدان العربية نجد قانون العقوبات اللبناني، الذي كرس صراحـة مسؤوليـة الأشخـاص المعنويـة جنائيـا فـي المادة 210 منه [15] .
فما هو موقف التشريع الجزائري من كل ذلك ؟
المطلــب الثانـي
الإتجـاه التشريعـي حول فكـرة المسؤوليـة الجزائيـة للشخـص المعنوي
إن إبراز موقف التشريع الجزائري خلال الحقبة السابقة لتعديل كل من قانوني العقوبات والإجراءات الجزائية له بالأهمية بما كان، حتى يمكننا معرفة اتجاه المشـرع إلى التكريــس المرحلي للمسؤولية الجزائية، الذي أملته عليه جملة التحـولات السياسيــة و الاقتصاديــة والاجتماعية التي عرفتها بلادنا، قصد إيجاد جوابا للتساؤل الذي فرض نفسه ولعدة سنوات حول ما إذا كان جائزا إقامة المسؤولية الجزائية ليس فقط على عاتق رئيس أو مدير المؤسسة بل على الشركة نفسها بصفتها شخصا معنويا ؟
وحتى نصل إلى الجواب سنتطرق إلى جملة التشريعات المرحلية المتعاقبة في كل من قانون العقوبات أو القوانين المكملة له المعالجة لهذه المسألة بداية من مرحلة:
Ø عدم الإقرار إلى
Ø الإقرار الجزئي إلى
Ø التكريس الفعلي لهذا المبدأ.
1) مرحلة عدم الإقرار :
كقاعدة عامة جاء بها قانون العقوبات لسنة 1966 الذي لم ينص في مواده على جزاءات تلحق بالشخص المعنوي.
فنصت المادة التاسعة منه في بندها التاسع على عبارة "حل الشخص الاعتباري" ضمن العقوبات التكميلية التي تجيز الحكم بها في الجنايات والجنح، وهذا ما قاد إلى الاعتقاد بأن المشرع الجزائري يعترف ضمنيا بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، إلا أن هذا الرأي مردود لعدة أسباب [16] .
• أنه لا يوجد أي دليل يمكن الاستناد إليه للقول بأن عقوبة "حل الشخص الاعتباري" عقوبة مقررة لشخص معنوي ارتكب جريمة باسمه ولحسابه، والواقع أنها عقوبة تكميلية مقررة للشخص الطبيعي الذي يرتكب جناية أو جنحة.
• إضافة إلى أن الوارد في هذه الفقرة هو تدبير أمن شخصي [17]لا يوقع إلا على الأشخاص الطبيعيين، لأنه يفترض فيهم أنهم وحدهم قادرون على مزاولة مهنة أو نشاط أو فن، وبذلك يكون حكم المادة 23 الذي يحدد حالات تطبيق هذا التدبير قاصرا على الأشخاص الطبيعيين دون الأشخاص الاعتباريين.
ثم أن المشرع الجزائري قد أفرغ هذه العقوبة من محتواها في نص المادة 17 التي جاءت لتوضيح مفهوم العقوبة، وشروط تطبيقها و ذالك بكيفيتين:
Ø الأولى/ تتمثل في كون المشرع لم يعد يتكلم عن حل الشخص المعنوي، و إنما تحدث عن منع الشخص الاعتباري من الاستمرار في ممارسة نشاطه.
Ø الثانية/ تتمثل في كون المشرع لم يحدد شروط العقوبة سالفة الذكر، وحيث أنها عقوبة تكميلية فلا يجوز الحكم بها إلا إذا نص القانون عليها صراحة كجزاء لجريمة معينة، وبالرجوع إلى قانون العقوبات و القوانين المكملة له لا نجد فيها إطلاقا حل الشخص المعنوي كعقوبة لجناية أو جنحة [18] .
هذا يحيلنا إلى إشكال آخر ورد في المادة 647 من قانون الإجراءات الجزائية المدرجة ضمن الباب الخامس، الذي ينظم أحكام "صحيفة السوابق القضائية" فهذه المادة تضع أحكاما خاصة بتحرير بطاقات صحيفة السوابق القضائية للشركات المدنية والتجارية، وتحدد المادة حالات هذه البطاقة فتنص في الفقرة الثانية "كل عقوبة جنائية في الأحوال الاستثنائية التي يصدر فيها مثلها على شركة".
والسؤال الذي يطرح هنا: هل معنى ذلك أن المشرع الجزائري قد حاد على الأصل وأقر بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي؟
يرى الدكتور "رضا فرج" في شرحه لهذه المادة، بأن المشرع الجزائري بإيراده للفقرة السابقة الذكر يكون قد استبعد في الواقع إمكانية توقيع العقوبة على الشخص المعنوي، وبالتالي استبعد الاعتراف بمساءلته كقاعدة عامة، والفقرة جاءت لتقرير بعض الأحكام في الحالات الاستثنائية التي تصدر بشأنها نصوص خاصة توقع العقوبات الجزائية على الأشخاص المعنوية [19] .
وما تجدر الإشارة إليه ونحن بهذا الصدد ما جاء به القانون رقم 09.01 المؤرخ في 26 جوان 2001 المعدل والمتمم لقانون العقوبات [20] .
إذ جاء في المادة 144 مكرر 1و المادة 146 المعدلتان، حديث عن النشرية التي تسيء إلى رئيس الجمهورية، أو الهيئات النظامية أو العمومية، بنشرها عبارات تتضمن إهانة، سبا أو قذفا حيث تتعرض هذه النشرية للعقوبات الجزائية المجسدة في الغرامات المالية.
إلى أن السؤال يثور حول من يتحمل المسؤولية الجزائية عن هذه الجرائم الناتجة عن مقال صحفي، عنوان يومي، رسم كاريكاتوري، هل تؤول إلى الصحفي الذي قام بهذا العمل شخصيا، أو إلى المسؤول عن النشرية باعتباره من سمح بنشر مثل هذه المقالات أو الرسوم، أم مساءلة النشرية ذاتها؟
للإجابة على ذلك لا بد من تحديد مدى تمتع النشرية بالشخصية المعنوية من عدمه، لأنه سبق وأن توصلنا إلى أن أي كيان قانوني حتى يمكن مساءلته لا بد من أن يتمتع بالشخصية المعنوية قبل كل شيء.
غير أنه ما يبدو غريبا في هذه المسؤولية، هو التناقض الذي وقع فيه المشرع في القانون 90/07 المتعلق بالإعلام فمن جهة يقرر أن النشرية هي عبارة على شركات أو مؤسسات بما يترتب على ذلك من آثار، ثم يأتي في الباب الرابع تحت عنوان "المسؤولية وحق التصحيح وحق الرد" في المادة 41 منه ليقرر أنه "يتحمل المدير أو كاتب المقال أو الخبر مسؤولية أي مقال ينشر في نشريه دورية أو أي خبر يبث بواسطة الوسائل السمعية البصرية" وهو موفق واضح في تحديد الجهة المسؤولة، لكن بالمقابل في الباب السابع المتعلق بالأحكام الجزائية في المادة 79 يقرر نوعان من العقوبات الخاصة بالأشخاص المعنوية، في الغرامة والوقف.
ومن هذا التحليل نجد أن تطبيق القواعد العامة أمرا حتميا، خاصة بعد تعديل قانون العقوبات في 26جوان 2001، إذ أن الأصل هو تطبيق القانون العام ما لم يرد نص خاص يقيده، وهو ما كان معمول به بموجب قانون الإعلام 90/07 إلى غاية تعديل 2001 الذي أقر المسؤولية الجزائية للنشرية.
انطلاقا مما سبق نلاحظ أن المشرع الجزائري في قانون العقوبات لم يتبنى المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي بنص صريح، وإنما نص عليها بصورة ملتوية محددة في نص وحيد، مما يدفعنا إلى البحث في النصوص القانونية الخاصة.
2 )مرحلة الإقرار الجزئي [21] :
ظهر من خلاله اتجاه المشرع إلى الإقرار الجزئي بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، فجاء القانون رقم 90/36 المعدل بالقانون رقم91/25 [22]في المواد من 4 إلى 57 حيث نصت المادة 303 منه المقطع 09 على ما يلي: "عندما ترتكب المخالفة من قبل شركة أو شخص معنوي آخر تابع للقانون الخاص، يصدر الحكم بعقوبات الحبس المستحقة وبالعقوبات التكميلية ضد المتصرفين، والممثلين الشرعيين، أو القانونيين للمجموعة.
ويصدر الحكم بالغرامات الجزائية المستحقة ضد المتصرفين أو الممثلين الشرعيين، وضد الشخص المعنوي، دون الإخلال فيما يخص هذا الأخير، بالغرامات الجبائية المنصوص على تطبيقها"
كما جاء في الأمر رقم 96/22 المعدل والمتمم بالأمر رقم 03/01 [23]صراحة في المادة الخامسة منه "يعتبر الشخص المعنوي الخاضع للقانون الخاص دون المســـاس بالمسؤولية الجزائية لممثليه الشرعيين، مسؤولا عن (مخالفات الصرف) المرتكبة لحسابه، من قبل أجهزته أو ممثليه الشرعيين".
وما يلاحظ على هذا النص، أنه لم يحصر الأشخاص المعنوية ولم يفرض عليها قيدا، على خلاف التشريعات المقارنة وهو ما تداركه المشرع بتعديل رقم 03/01 ليحدد الأشخاص المعنوية الخاصة كمحل للمساءلة الجزائية، إضافة إلى شروط قيام المسؤولية –أن ترتكب لحسابه، ومن قبل أجهزته أو ممثليه- مع تبيان إجراءات المتابعة والعقوبات المطبقة.
وإلى جانب ذلك نجد القانون رقم 03/09 [24]،يعاقب في المادة 18 منه، الشخص المعنوي الذي يرتكب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في ذات القانون في المواد من 9 إلى 17 بغرامات مالية تعادل خمس مرات الغرامة المقررة للشخص الطبيعي.
ويبقى لنا أن نشير إلى بعض النصوص القانونية الأخرى التي أقرت صراحة بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، إلا أنها ألغيت بتعاقب القوانين، كالأمر رقم 37.75 المؤرخ في 19 أفريل 1975، المتعلق بالأسعار وقمع المخالفات الخاصة بتنظيمها، الذي ألغي بالقانون رقم 12.89 المؤرخ في 05/07/1989، متخليا بذلك عن المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، وبالمقابل نجد بعض النصوص التي أقرت ضمنيا هذه المسؤولية، كالأمر رقم 06.95 المؤرخ في 25/01/1995 المتضمن قانون المنافسة [25].
ومن خلال ما سبق ذكره، نلاحظ أمام الخلط والغموض الذي أضفاه المشرع الجزائري على قانون العقوبات أو حتى في القوانين الخاصة، جعل من مسألة المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي أكثر تعقيدا عند ترجمة هذه النصوص عند التطبيق.
لذا كان أمام القضاء الجزائري أن استبعد صراحة في عدة مناسبات المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي ،حيث رفض بناء على مبدأ شخصية العقوبة وتفرديها الحكم على الشخص المعنوي بالجزاءات الجبائية المقررة في قانون الجمارك ، كما رفض تحميل وحدة اقتصادية مسؤولية دفع الغرامة المحكوم بها على مديرها من أجل ارتكاب جنحة إصدار شيك بدون رصيد لحساب المؤسسة [26] .
كما تجاهـل المجلــس القضائي بعناية الديـوان الوطني للحليـب، عند النظــر في جريمة سوء التسيير [27]التي نسبت إلى المسؤول التجاري لهذا الديوان، عندما تم العثور علـى كميات كبيرة من الحليب متجاهلا كون هذا الأخير شخص معنوي ودون الأخذ لا بمسؤوليته الجزائية ولا حتى المدنية.
ويظهر الحرج الذي كان يحس به القضاء إزاء غياب النص الصريح على المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، في القرار الصادر عن مجلس قضاء قسنطينة ،تعود وقائعه إلى اتهام المدعو (وع) بترويج شيك بدون رصيد لصالح شركة تجارية (م) للإبقاء عليه كضمان، وبالفعل فإن الشركة المستفيدة أبقت على الشيك عندها ولم تقدمه إلا بعد حوالي ثمانية عشر شهرا عندها تبين أنه بدون رصيد، وكان من الطبيعي أن تدين محكمة الجنح الساحب بجنحة ترويج شيك بدون رصيد وقبول الشركة كطرف مدني [28] .
لذا لا جدال في أنه بدون النص الصريح في القانون على هذه المسؤولية، وعلى العقوبات التي يمكن توقيعها على الأشخاص المعنوية، وعلى النظام الإجرائي الخاص بمحاكمته وتنفيذ العقوبة عليه، لا يمكن في ضوء تلك النصوص القول بأن القانون السابق كان يعترف بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي كقاعدة عامة، وبالمقابل لم ينكر إمكانية ذلك وهو ما تضمنته العديد من النصوص القانونية الخاصة.
3 )مرحلة التكريس الفعلي لمبدأ المسؤولية الجزائية :
وهو ما خلص له تعديل كل من قانون العقوبات 04/15 المؤرخ في 10/11/2004، وقانون الإجراءات الجزائية رقم 04/14 الصادر بذات التاريخ، بعد أن قادت إليه عدة دوافع واعتبارات ذاتها التي مرت بها كل التشريعات التي أقرت بالمسؤولية الجزائيـة للشخــص المعنوي، وعلى رأسها القانون الفرنسي [29]-نظرا لتطابق التشريعيـن-، مما أدى إلــى استحداث مسؤولية جزائية محددة من ناحية الأشخـاص والجرائم، ومشروطة ل إ عمالها يجب أن ترتكب لحساب الشخص المعنوي بواسطة أعضائه أو ممثليه، دون أن تنفي مسؤولية الشخص أو الأشخاص الطبيعيين فاعلين كانوا أو شركاء في الجريمة التي يسأل عنها الشخص المعنوي.
فما هو مجال تطبيق هذه المسؤولية؟
وما هو النظام العقابي المستحدث لتكريس ذلك؟
الفصل الأول
مجال تكريس مبدأ المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي في ظل تعديل قانوني العقـوبات والإجراءات الجزائيـة
قبل إقرار المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي بموجب تعديل قانوني العقوبات والإجراءات الجزائية، كان هذا الأخير موضع مساءلة مدنية فقط، إلا أن التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها بلادنا جعلت المشرع ينظر للشخص المعنوي من جانب جزائي متعديا بذلك إطار التعويض المدني مما فرض عليه استحداث مجال لمساءلته جزائيا.
لذا سوف نحاول من خلال هذه الدراسة إبراز كيفية تنظيمه للمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي في كل من قانوني العقوبات والإجراءات الجزائية، وهذا يعني أننا سنتناول هذا الموضوع من الوجهة التشريعية، بداية بتحديد الأشخاص المسؤولة جزائيا وفقا للمادة 51 مكرر من قانون العقوبات، وهذا يستوجب أن نفرق بين الأشخاص المعنوية العامة والخاصة نظرا لخصوصية المشاكل المتعلقة بالنوعين (مبحث أول).
كما يستلزم أن نتطرق إلى الجرائم التي من شأنها أن تسند للأشخاص الاعتباريين انطلاقا من النصوص القانونية التي تفرض لكل جريمة نص خاص في إطار مبدأ الشرعية (مبحث ثاني).
لنخلص في الأخير إلى الشروط الواجب توافرها لقيام المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية من حيث المتابعة، التحقيق و المحاكمة (مبحث ثالث)
المبحث الأول
الأشخاص المعنوية المعنية بهذه المسؤوليـة
على عكس المشرع الفرنسي الذي لم يجعل من المسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية مبدأ عاما، فإن قرر هذه المسؤولية لكافة الأشخاص المعنوية الخاصة، إلا أنه قيد هذا المبدأ فيما يتعلق بالأشخاص المعنوية العامة، إذ استبعد من نطاق المادة 121/2 قانون عقوبات كل من الدولة والتجمعات المحلية ، بالمقابل حصرت المادة 51 مكرر مجال المسؤولية الجزائية في أشخاص القانون الخاص، إذ استثنت كل من الدولة، الجماعات المحلية و الأشخاص المعنوية الخاضعة للقانون العام.
وإن كانت التشريعات التي اعتمدت مبدأ المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي تتفق في مجملها على استثناء الدولة بالمفهوم الضيق من مجالها، فالأمر على خلاف ذلك بالنسبة للأشخاص المعنوية الخاضعة للقانون العام وبدرجة أقل الجماعات المحلية.
أمام هذا وجب تحديد الأشخاص المعنوية المسؤولة جزائيا وفقا للمادة 51 مكرر
بداية بالأشخاص المعنوية العامة "مطلب أول".
فالأشخاص المعنوية الخاصة "مطلب ثاني".
المطلـــب الأول
الأشخــاص المعنويــــة العامــــة
يبدو لنا أنه مما يتجاوز حدود هذه الدراسة البحث عن الأشخاص المعنوية العامة بصفة تفصيلية، فقد تكفل الفقه والقضاء الإداري بتعريفها وبيان التفرقة بينها وبين الأشخاص المعنوية الخاصة، ونعتقد أن القضاء الجنائي في تحديده للمقصود بالشخص المعنوي سوف ينطلق من معطيات القانون الإداري في هذا الشأن [30] .
إلا أن هذا لا يمنع من توضيح بعض الملابسات التي تركها المشرع في مفهوم المادة 51 مكرر، خاصة ما تعلق منها بالأشخاص المعنوية الخاضعة للقانون العام وأسباب استبعادها من مجال المسؤولية الجزائية.
وقبل ذلك يتعين علينا أن نحدد مفهوم كل من الدولة والجماعات المحلية كأشخاص معنوية إقليمية.
فأما الدولة يقصد بها الإدارة المركزية "رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، الوزارات،..." ومصالحها الخارجية "المديريات الولائية ومصالحها"، فلاستثنائها ما يبرره باعتبارها تضمن حماية المصالح الجماعية منها والفردية، وتتكفل بتعقب المجرمين ومعاقبتهم.
وأما الجماعات المحلية التي استثناها المشرع الجزائري ويقصد بها الولاية والبلدية، فقد اختلفت التشريعات بشأنها فمنها ما يستثنيها من المسؤولية، ومنها ما يبقى عليها ضمن الهيئات المسؤولة جزائيا، ومنها ما اتخذ موقفا وسطا كما هو حال القانون الفرنسي الذي لم يستثنيها، غير أنه حصر مسؤوليتها في الجرائم المرتكبة أثناء ممارسة أنشطة من المحتمل أن تكون محل اتفاقيات تفويض مرفق عام سواء كان الغير شخص من القانون الخاص أو القانون العام.
أمام هذا الوضع نتساءل عن أسباب الاستبعاد المطلق للجماعات المحلية من مجال المسؤولية الجزائية في نص المادة 51 مكرر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأعمال التي تصدر عنها بعيدا عن ممارستها لامتيازات السلطة العامة ؟
إضافة إلى هذا جاءت ذات المادة لاستبعاد الأشخاص المعنوية الخاضعة للقانون العام دون تحديدها، على خلاف مجمل التشريعات التي تتفق على إخضاعها للمساءلة الجزائية، وهو ما يخالف مبدأ المساءلة أمام العدالة الذي يقرر ذات المسؤولية الجزائية في مواجهة الشخص الطبيعي الذي ارتكب نفس الأفعال، فإن كان المبرر الوحيد لعدم مساءلة كل من الدولة والجماعات المحلية هو عدم المساس بمبدأ الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وأنه من غير المعقول متابعة ومعاقبة هذا الأخير لهذه الفئات من الأشخاص، رغم أن الجماعات المحلية عادة ما تتصرف بعيدا عن امتيازات السلطة العامة، إلا أنه بالمقابل لا نجد ما يبرر الاستبعاد المطلق للأشخاص المعنوية الخاضعة للقانون العام، على خلاف باقي التشريعات التي تتفق على تضمينها في إطار المسؤولية الجزائية أيا كانت هيكلتها القانونية [31] .
ويقصد بها المؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري أساسا، والمؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري بدرجة أقل، حسب ما جاء به القانون رقم 01/88 المؤرخ في 12/01/88 المتضمن قانون توجيه المؤسسات الخاضعة للقانون العام DROIT PUBLIC .
أ- مؤسسات عمومية ذات طابع إداري: EPA :
تمارس نشاطا ذا طبيعة إدارية، تتخذها الدولة و المجموعات الإقليمية المحلية كوسيلة لإدارة مرافقها الإدارية، وتخضع في أنشطتها إلى القانون العام، ومن هذا القبيل:
* المدرسة العليا للقضاء ( ESM ) مرسوم تنفيذي رقم 05/303 المؤرخ في 20/8/2005.
* الديوان الوطني للخدمات الاجتماعية ( ONOU ) (مرسوم تنفيذي رقم 95/84 المؤرخ في 22/3/1995).
* الوكالة الوطنية لتطوير الاستثمار ( ANDI ) (مرسوم تنفيذي رقم 01/282 المؤرخ في 24/9/2001).
* المستشفيات (مرسوم تنفيذي رقم 97/406 المؤرخ في 02/12/1997).
وقد أضاف القانون رقم 98/11 المؤرخ في 22/08/1998 المتضمن القانون التوجيهي والبرنامج الخماسي حول البحث العلمي والتطور التكنولوجي إلى هذه المؤسسات فئة أخرى وهي:
v المؤسسات العمومية ذات الطابع العلمي والتكنولوجي ومن هذا القبيل:
§ مركز البحث في الاقتصاد المطبق من أجل التنمية ) CREAD مرسوم تنفيذي رقم 85/07 مؤرخ في 17/12/1985 معدل بموجب المرسوم التنفيذي رقم 03/455 المؤرخ في 01/12/2003.
§ مركز تنمية الطاقات المتجددة ) CDER مرسوم تنفيذي رقم 85/07 مؤرخ في 22/03/1988 المعدل بموجب المرسوم التنفيذي رقم 03/456 المؤرخ في 1/12/2003.
§ مركز البحث النووي مرسوم رئاسي رقم 99/86 المؤرخ في 15/أفريل/1999.
وأضاف القانون رقم 99/05 المؤرخ في 4/4/1999 المتضمن القانون التوجيهي للتعليم العالي:
v المؤسسات العمومية ذات الطابع العلمي والثقافي والمهني:
التي تشمل الجامعات والمراكز والمدارس ومعاهد التعليم العالي (مادة 38 من القانون رقم 99/05 والمادة 02 من المرسوم التنفيذي المؤرخ في 23/08/2003 المتضمن تحديد مهام الجامعة والقواعد الخاصة بتنظيمها وسيرها.
دون أن ننسى المؤسسات المتعلقة بالجيش والدفاع الوطني، كصندوق التقاعدات العسكرية (المادة 02 مرسوم رئاسي رقم 99/98 المؤرخ في 20/أفريل1999).
ب- مؤسسات عمومية ذات طابع صناعي وتجاري EPIC :
هي أشخاص عمومية تابعة للقانون الخاص، يكون موضوع نشاطها تجاريا وصناعيا مماثل للنشاط الذي تتولاه الأشخاص الخاصة، تتخذها الدولة والجماعات المحلية كوسيلة لإدارة مرافقها ذات الطابع الصناعي والتجاري، وهي تخضع في هذا لأحكام القانون العام، والقانون الخاص معا كل في نطاق معين كما جاء في المادة 45 من القانون رقم 88/01، هذا الأخير ولو أنه أدخل تحت طياته EPIC كأشخاص معنوية عامة، إلا أنها تبقى تثير غموض من حيث إخضاعها للمساءلة الجزائية بعد تعاقب التعديلات على القوانين الداخلية لهذه المؤسسات، وهو ما يثير نوع من الإشكال القانوني من حيث مكانتها في المساءلة بعد استحداث المسؤولية الجزائية ومن هذا القبيل:
§ دواوين الترقية والتسيير العقاري EPGI (مرسوم تنفيذي رقم 91/147 المؤرخ في 12/05/1991.
§ الوكالة الوطنية لتحسين السكن وتطويره AADL (مرسوم تنفيذي رقم 91/148 مؤرخ في 2/05/2001.
§ الجزائرية للمياه ADE مرسوم تنفيذي رقم 01/101 مؤرخ في 21/04/2001).
§ بريد الجزائر (مرسوم تنفيذي رقم 02/43 مؤرخ في 14/01/2002).
وبدرجة أقل هيئات الضمان الاجتماعي (مادة رقم 49/01 مرسوم تنفيذي رقم 92/07 المؤرخ في 04/01/1992). على اعتبار أنه لم يحدد الطبيعة القانونية لهذه الصناديق،على خلاف المرسوم السابق رقم 85/223 في المادة 2 منه، أين صنفها على أنها مؤسسات ذات طابع إداري.
وكل هذه الملابسات نرتقب زوالها في التعديلات اللاحقة لتحديد مجال هذه المسؤولية، أين يتمكن القاضي من تطبيقها بعيدا عن التخمينات التي تؤدي كثيرا من الأحيان إلى صدور أحكام متناقضة من حيث تكييف النظام القانوني لهذه المؤسسات كمحل للمساءلة من عدمه.
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma