الموضوع : الاثبات الجزائي
المقدمة :
للإثبات أهمية كبيرة للمسائل الجزائية، ذلك أن الجريمة تمس أمن المجتمع و نظامه ، فتنشأ عنها سلطة الدولة في متابعة الجاني لتوقيع الجزاء الجنائي عليها تحقيقا للردع العام، و بما أن الأصل براءة ذمة المتهم مما أسند إليه فإنه يجب أن تكفل له قواعد الإثبات التمتع بهذه القرينة، و على سلطة الإتهام أن تدحضها إذا إدعت خلافها و يكون ذلك عن طريق ما يسمى الدليل الجزائي الذي هو أساس الإثبات و هو الوسيلة التي يستعين بها القاضي للوصول إلى الحقيقة للإعمال الحكم القانون عليها بإثبات حصول الجريمة من الناحية الواقعية بركنيها المادي و المعنوي و نسبتها إلى المتهم ، و قد إزدادت أهمية الدليل الجنائي وفقا للسياسة الجنائية الحديثة التي تهدف إلى تفريد العقاب الجزائي وفقا لشخصية المتهم و على ذلك فإن الدليل الجنائي يفيد في أمرين : الأول التقدير القانوني للجريمة من حيث إرتكابها و نسبتها إلى المتهم من أجل تطبيق العقوبات و الثاني التقدير الإجتماعي للمتهم من حيث ظروفه الشخصية و خطورته و قد أورد المشرع الجزائري أدلة الإثبات الجزئاية في قانون الإجراءات الجزائية في الفصل الأول من الباب الأول من الكتاب الثاني تحت عنوان " في طرق الإثبات" المواد من 212 إلى 238 ق إ ج و أدلة الإثبات الجزائي حسب التشريع الجزائي هي : الإعتراف ، الشهادة ، المحررات ، القرائن، الإنتقال للمعاينة ، و الخبرة .
و قد إرتأيت تحليل مذركتي الحاملة لعنوان " أدلة الإثبات الجزائية " بطرح عدة إشكاليات تتمثل اساسا في :
ما هي المراحل التاريخية التي مر بها الإثبات الجزائي؟ ما هي نظم الإثبات الجزائي التي شهدها التشريع الجزائري ؟ و ما هي نظم الإثبات الجزائية الرئيسية ؟ ما هو مفهوم الإثبات الجزائي و أدلته و ما هي أدلة الإثبات الجزائية و الشروط الواجب توافرها فيها وحجية كل منها في الإثبات ؟ و قد إتبعت للتفصيل و الإجابة عن هذه التساؤلات الخطة التالية :
مقدمة
الفصل الأول : عموميات عن الإثبات الجزائي
المبحث الأول : التطور التاريخي لنظم الإثبات الجزائية
المطلب الأول : نظم الإثبات في العصور القديمة
الفرع الأول : نظم الإثبات الجزائي في المجتمعات البدائية
الفرع الثاني : لنظم الإثبات الجزائي في المجتمعات القبلية
الفرع الثالث : نظم الإثبات الجزائي في بعض الحضارات القيدمة
المطلب الثاني : نظم الإثبات الجزائي في القانون الروماني و في العصور الوسطى
الفرع الأول : نظم الإثبات الجزائي في القانون الروماني
الفرع الثاني : نظم الإثبات الجزائي في العصور الوسطى
المطلب الثالث : نظم الإثبات في القوانين المعاصرة و في التشريع الجزائري
الفرع الأول : نظم الإثبات الجزائي في القوانين المعاصرة
الفرع الثاني : نظم الإثبات الجزائي في التشريع الجزائري
المبحث الثاني : نظم الإثبات الجزائية الرئيسية
المطلب الأول : نظام الإثبات الجزائي القانوني
الفرع الأول : مضمون نظام الإثبات الجزائي القانوني
الفرع الثاني : خصائص نظام الإثبات الجزائي القانوني
الفرع الثالث : عيوب نظام الإثبات الجزائي القانوني
المطلب الثاني : نظام الإثبات الجزائي الحر
الفرع الأول : مضمون نظام الإثبات الجزائي الحر
الفرع الثاني : خصائص نظام الإثبات الجزائي الحر
الفرع الثالث : عيوب نظام الإثبات الجزائي الحر
المطلب الثالث : نظام الإثبات الجزئاي المختلط
المبحث الثاني : مفهوم الإثبات الجزائي و أدلته
المطلب الأول : مفهوم الإثبات الجزائي
الفرع الثاني : تعريف الإثبات الجزائي عن الإثبات في المواد المدنية
الفرع الثالث : موضوع الإثبات الجزائي
الفرع الرابع : هدف الإثبات الجزائي
الفرع الخامس : عبء الإثبات في المواد الجزائية
المطلب الثاني : مفهوم الدليل الجزائي
الفرع الأول : تعريف الدليل الجزائي
الفرع الثاني : تمييز الدليل الجزائي عن بعض المفاهيم الأخرى
الفرع الرابع : الشروط الواجب توافرها في الدليل الجزائي
الفصل الثاني : أدلة الإثبات الجزائية
المبحث الأول : الإعتراف و الشهادة
المطلب الأول : الإعتراف
الفرع الأول : تعريف الإعتراف
الفرع الثاني : خصائص الإعتراف
الفرع الثالث : أنواع الإعتراف
الفرع الرابع : شروط صحة الإعتراف
الفرع الخامس : حجية الإعتراف في الإثبات
المطلب الثاني : الشهادة
الفرع الأول : تعريف الشهادة و أنواعها
الفرع الثاني : خصائص و الشهادة
الفرع الرابع : حجية الشهادة في الإثبات
المطلب الأول : القرائن
الفرع الأول : تعريف القرينة
الفرع الثاني : أنواع القرائن
الفرع الثالث : حجية القرائن في الإثبات
المبحث الثاني : المحررات
الفرع الأول : تعريف المحرر
الفرع الثاني : شكل المحرر و مصدره
الفرع الرابع : المحررات الرسمية
الفرع الخامس : المحاضر
المبحث الثالث : الخبرة و الإنتقال للمعاينة
المطلب الأول : الخبرة
الفرع الأول : الإجراءات السابقة لإنجاز الخبرة
الفرع الثاني : سير الخبرة
الفرع الثالث : تحرير و إيداع تقرير الخبرة
الفرع الرابع : حجية الخبرة في الإثبات
الفرع الخامس : تطبيقات عن الخبرة
المطلب الثاني : الإنتقال للمعاينة
الفرع الأول : مفهوم الإنتقال للمعاينة
الفرع الثاني : بعض أنواع المعاينات
الفصل الأول : عموميات عن الإثبات الجزائي
سنتطرق في هذا الفصل إلى مختلف المراحل التي مر بها الإثبات في المادة الجزائية و إلى أهم نظم الإثبات الجنائية الرئيسية ثم نتطرق بعدها إلى مفهوم الإثبات الجنائي و أدلته و كل ذلك على النحو التالي :
المبحث الأول : التطور التاريخي لنظم الإثبات الجزائية
تتأثر أنظمة الإثبات الجزائية بالعوامل السياسية و الإجتماعية و الثقافية و بالقيم السائدة في المجتمعات كما تتأثر بدرجات النمو و التقدم في الدولة و من خلال ما يأتي سنتعرض لمختلف المراحل التي مرت بها أنظمة الإثبات .
المطلب الأول : نظم الإثبات في العصور القديمة
الفرع الأول :نظم الإثبات الجزائي في المجتمعات البدائية
لقد عرفت المجتمعات البدائية بأنها تلك المجتمعات التي كانت تتشكل من أسرة أو مجموعة من الأسر مستقلة عن بعضها البعض، و القوة هي الطابع المميز لها، و أي إعتداء يقع على أحد الأفراد أو على ماله يولد لديه رد فعل مماثل إتجاه المعتدي، فقد تميزت بالتصارع بين الأفراد على وسائل الحياة و في غياب السلطة و النظام إحتكمت إلى القوة فأصبح الفرد قاضي نفسه يضع تقريره للأفعال بناء على ما يراه على أساس أن قوة الشخص تنشيء الحق و تحميه، لذا فإن إثبات هذا الحق يكون بناء على الإقتناع الشخص للفرد و هذا الإقتناع لا يحكمه لا العقل و لا المنطق بل تحكمه الغريزة و الحماية البدنية، لكن هذه الحالة لم تدم طويلا حيث أدرك الإنسان البدائي بفطرته أن ما يأتيه أمر غير طبيعي، و أن الضرر الذي يعود عليه أكبر بكثير من النفع الذي يجنيه لذا بدأ يبحث عن بديل يحتكم إليه، و يستخلص مما سبق أن هذه المرحلة لم تظهر أي وسيلة من وسائل الإثبات، لأن إنسان تلك الحقبة كان ينشيء حقه و يحميه بنفسه إعتمادا على قوته البدنية.
الفرع الثاني : نظم الإثبات الجزائي في المجتمعات القبلية
يطلق على المجتمعات التي تمارس الزراعة البسيطة و تربية الحيوانات إصطلاح المجتمعات القبلية، و في مجتمع القبيلة حل إنتقام القبيلة محل إنتقام الفرد فالإعتداء على الفرد في القبيلة عد إعتداء على القبيلة كلها و هو ما يعرف الآن بالإعتداء على المجتمع، و قد ساد إعتقاد في هذه المجتمعات أن الآلهة تنظر إلى أفعالهم و تراقب سلوكهم و تنزل النعقاب عليهم إن أذنبوا لذا فكان للدين شأن عظيم في حياة الناس،
و إنعكس ذلك على وسائل الإثبات بحيث كان يعتقد بتدخل القوى الغيبية لمعاقبة المذنب الذي لا يريد الإعتراف بذنبه أو المساعدة على كشف الحقيقة، لذا ظهرت بعض وسائل الإثبات الذي يعتمد فيها على القوى الغيبية و من هذه الوسائل اليمين، الإبتلاء، العرافة، المبارزة القضائية.
أ – اليمين :
عبارة عن دعوة القوى الغيبية بأن تنزل بالحالف عقابا إذا كان كاذبا، فهي دعاء على النفس بالشر.
ب- الإبتلاء :
وسيلة من وسائل الإثبات و هو إجراء يخضع له من يشتبه في إرتكابه جرما معينا دون أن يقوم في مواجهته دليل كاف بإدانته، و غاية الإجراء هو التوصل إلى معرفة المتهم كونه بريئا أو مذنبا و هذا بتوجيه من القوى الغيبية، و كان للإبتلاء عدة صور نذكر منها :
* إلزام المبتلى أن يغمس يده بماء مغلي أو زيت لإلتقاط شيء به في قاع الإناء .
* إلزامه بالغطس في ماء بئر أو نهر فإذا نجى أعتبر بريئا.
ج- العرافة :
عبارة عن إجراء يهدف إلى الكشف عن أمر مجهول بالإستعانة بالآلهة و ذلك عندما تثور الشبهة في إرتكاب جريمة دون أن يكون في الوسع معرفة الفاعل الحقيقي .
المبارزة القضائية :
هي منازلة بين شخصين و المنهزم يقتل أو ينفى لأن الآلهة في إعتقادهم قد أقرت مصيرهم.
الفرع الثالث : نظم الإثبات الجزائي في بعض الحضارات القديمة
بدأت الملامح الأولى لأنظمة الإثبات في ظل هذه الحضارات تظهر و تبر، فقد عرف العبريون نظاما للإثبات يشبه إلى حد بعيد النظام المختلط و قد ثبت معرفتهم لقاعدة شفوية المرافعات، و كذلك فإن التشريع العبري ينص على عدم الإستناد في حكم الإدانة على إعتراف المتهم و حده أو على شهادة شاهد واحد أو على القرائن ([1]) و أن سيدنا موسى عليه السلام قد وجه توصية إلى القضاة حثهم عليها على مراعاة الدقة في أقوال الشهود ([2]) و نفس الوضع بالنسبة للهند في ظل شريعة "مانو" فلم تكن تكفي شهادة واحدة و كانت الشهادة تخضع لمطلق تقدير القاضي و من تعليمات "مانو" للقضاة أن يعملوا على الكشف عما يخطر في ذهن الشهود بواسطة الإمارات الخارجية التي تظهر من نبرة الصوت و لون الوجه و حالة الجسم و الحركات التي يقوم بها المتهم أو الشاهد ([3]).
أما بالنسبة للحضارة الفرعونية فقد عرفت الكثير من الإجراءات المعروفة في عصرنا و إن كانت متأثرة بنفوذ الكهنة و ذات صبغة دينية، لأن قدماء المصريين كانوا يقدسون ملوكهم و يعتبرونهم مفوضين من الآلهة لتوقيع العقاب [4] و في غالب الأحيان كانت جلسات المحاكم العادية علنية غير أن المرافعات كانت تتم عن طريق الكتابة [5] و يعلل ذلك بأنه كان محاولة لعدم تأثر القضاة بالدفاع أو بحالة المتهم.
كما أن القاضي كان يحكم بناء على إقتناعه الشخصي و يمكن إعتبار حالات التعذيب للحصول على الإعتراف أو المحاكمات الإلاهية بمجرد إستثناءات عن المبدأ.
أما في الحضارة اليونانية فقد كانت المحاكم الشعبية التي تتكون من المواطنين هي التي تتولى القضاء الجنائي و هو الأصل في نظام المحلفين الذي تعرفه التشريعات المعاصرة و أن الطابع العام في هذا النظام من ناحية الإثبات يقوم على حرية الإثبات .
و خلاصة القول بالنسبة للعصور القديمة يمكننا أن نقول بأنه و بصفة عامة فإن فكرة الإثبات الحر كانت هي السائدة بشكل بدائي تختلط به القيم السائدة و الفكر الديني و التفكير الغيبي.
المطلب الثاني : نظم الإثبات الجزائي في القانون الروماني و في العصور الوسطى
الفرع الأول : نظم الإثبات الجزائي في القانون الروماني
مر الإثبات الجنائي في القانون الروماني بثلاث مراحل :
أولا : العصر الملكي
عرف هذا العصر بأن الملك هو الكاهن الأعظم لشعبه و قائده و ترتب على هذه السلطة الدينية للملك نتيجة هامة هو إستحواذه على السلطة القضائية و إرتباط القانون بالدين في المسائل الجنائية، و كان الرومان ينظرون إلى الجريمة على أنها إعتداء على الآلهة و العقوبة هي تطهير النفس من ذلك الإثم، أما فيما يخص طريقة الإثبات في العصر الملكي فليست هناك معلومات دقيقة في ذلك و يمكن القول أن الوضع كان يشبه الوضع السائد في الحضارات القديمة.
العصر الجمهوري :
إنتشر في هذا العصر القضاء الشعبي الذي يفصل في المسائل الجنائية عن طريق المنتديات الشعبية التي تعقد فيها المحاكمات الجنائية، و المبدأ السائد في هذا النظام المبني على العدالة الشعبية يتمثل في الإقتناع الشخصي الذي يدلي به القضاة الشعبيون أثناء التصويت، و قد كان تقدير الشهادة يخضع لإقتناع القاضي دون إعتبار لعدد الشهود، و قد كان الإعتراف يخضع لتقدير القاضي و لم يعرف العهد الجمهوري أي أثر لنظام الأدلة القانونية .
عصر الإمبراطورية :
تطورت وسائل الإثبات في هذا العصر نحو الأدلة القانونية و بذلك إنتهى نظام القضاء الشعبي و حل محله نظام القضاء المحترف الدائم، و كان على رأس كل محكمة حاكم المدينة، و قد أثر ذلك بطبيعة الحال على نظام الإثبات، حيث صدرت تعليمات إلى القضاة تحدد لهم بعض طرق الإثبات مثل إثبات صحة الواقعة بشهادة شاهدين على الأقل ([6] ) و عدم الإعتماد على القرائن القضائية، كما وضعت قائمة بحالات عدم الأهلية لأداء الشهادة، كما طلب من المدعين أن يقدموا وثائق حاسمة لا تحمل الشك([7]).
أما الإعتراف فإنه كان يعتبر في بعض الأحيان دليلا كاملا و قد كان يحصل عليه في بعض الأحيان عن طريق التعذيب، إن الهدف من وراء إشتراط بعض القيود في تقدير أدلة الإثبات هو حماية المتهمين من تعسف حكام المدن و مساعديهم الذين كانوا يشكلون الهيئات القضائية.
و يمكن القول بالرغم من هذه التحديدات في تقدير وسائل الإثبات في عهد الإمبراطورية الرومانية فإن فكرة الإثبات عن طريق الإقتناع ظلت هي السائدة بوجه عام رغم ظهور نظام الأدلة القانونية في القانون الروماني في العهد الإمبراطوري، كما أنه يمكن القول من جهة أخرى بأن نظام الإثبات الروماني في العهد الإمبراطوري نظام مختلط يغلب عليه طابع الإثبات الحر.
الفرع الثاني : نظم الإثبات الجزائي في العصور الوسطى
بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية و إستيلاء البربر على السلطة وقع تغيير في نظام الإثبات، و كان إمتداد لما شهده نظام الإثبات في العهد الإمبراطوري من القانون الروماني، حيث بدأ نظام الأدلة القانونية في التبلور فكان إعتراف المتهم أو وجوده في حالة تلبس يؤدي مباشرة إلى إدانته.
و في عهد الإقطاع أعتبرت شهادة الشاهدين دليلا كاملا تترتب عنه إدانة المتهم، و أن الدليل الكتابي قرينة قاطعة لا تقبل إثبات العكس و كما أعتبرت بعض القرائن دليلا كاملا، و هكذا فقد تبلور نظام الأدلة القانونية و إزدهر خلال القرنين 16 و 17 الميلادية، و قد إمتازت الفترة بنقل السلطة القضائية من أفراد الشعب إلى قضاة محترفين دائمين، و قد ساد مبدأ أو نظام الأدلة القانونية حتى قيام الثورة الفرنسية سواء في فرنسا أو حتى في غيرها من الدول الأوربية.
المطلب الثالث : نظم الإثبات الجزائي في القوانين المعاصرة و في التشريع الجزائري
الفرع الأول : نظم الإثباتالجزائي في القوانين المعاصرة.
في منتصف القرن 18 ميلادية بدأت حملة إنتقاد شديدة ضد نظام الأدلة القانونية على أساس أنه لا يمكن إدراك الحقيقة أو الجزم أو اليقين بالإنغلاق في حلقة من قواعد القانون، و يجب ألا يتقيد القاضي بالأدلة القانونية في الإثبات في المواد الجنائية و إنما يصدر القاضي حكمه بناء على إقتناعه الشخصي مهما كان مصدر هذا الإمتناع، و على إثر ذلك و بعد قيام الثورة الفرنسية تم تبني نظام الإثبات الحر أو الإقتناع الشخصي، و قد أثر القانون الفرنسي فيما يخص مبدأ الإثبات في كافة التشريعات المختلفة و اصبح مبدأ حرية الإثبات سائدا في أغلب التشريعات.
و مع ظهور الثورة العلمية التي حققت قفزات هائلة عن طريق التقدم العلمي، بحيث بلغت أوجها في العصر الحالي، فقد إنعكس هذا التطور على كافة مجالات الدراسات الجنائية بصفة عامة، و مجال الإثبات الجنائي بصفة خاصة و إستفاد منها إستفادة كبيرة، لذلك إتجه غالبية الفقه المقارن إلى الحديث عن ظهور مرحلة جديدة للإثبات تسمى " بالمرحلة العلمية"، حيث تلعب فيها الخبرة الجنائية دورا كبيرا في تكوين عقيدة القاضي و ذلك بإعمال الدليل العلمي، و من وسائل الإثبات العلمية الحديثة نذكر : علم البصمات، علم التحليل الكيميائي، علم الطب الشرعي، أجهزة التسجيل الصوتي.
إذن سمة هذا العصر في مجال الإثبات الجنائي بروز الدليل العلمي بما يتميز به من موضوعية و حياد و كفاءة في إقتناع القاضي الجنائي.
الفرع الثاني : نظم الإثبات الجزائي في التشريع الجزائي
نميز في هذه الحالة المراحل التالية :
أولا : مرحلة ما قبل صدور قانون الإجراءات الجزائية
* فترة الوجود العثماني بالجزائر :
بإحتلال العثمانيون للجزائر حوالي سنة 1410 ظل العمل بمبادئ الشريعة الإسلامية لاسيما في مجال الإثبات الجنائي حيث تركزت وسائل الإثبات في الشهادة أساسا و لكن هذا لم يمنع من وجود وسائل أخرى كاليمين و الإقرار.
* فترة الإحتلال الفرنسي :
إلى غاية 1830 لم يكن موجودا قانون وضعي خاص بالجزائر فظل العمل بأحكام الشريعة الإسلامية، ثم عمدت فرنسا بحلول السنة المذكورة إلى وضع نظامين قضائيين مختلفين، نظام فرنسي يختص بمسائل الأوربيين على وجه عام و نظام محلي يطبق على الرعايا المحليين.
* و فيما يخص القضايا الجنائية أصبحت من إختصاص القضاء الفرنسي منذ صدور قانون 1841 و قد ظل العمل بهذا القانون إلى غاية صدور أمر 1944 الذي أحدث إصلاحيات جوهرية في النظام القضائي خاصة فيما يتعلق بالمسائل المتعلقة بالإختصاص، و أثناء حرب التحرير لسنة 1954 طبقت فرنسا قوانين جائرة كان مبتغاها هو وقف الثورة فألغت حقوق الدفاع و أصبحت الشرطة تتمتع بسلطات في وقف و إحتجاز الأفراد و منح المحاكم العسكرية صلاحيات واسعة في جرائم تمرد المسلح و جرائم عصابات الأشرار أما إجراءات المحاكمة فكانت جد سريعة و التحقيق يقتصر على إستجواب الشخص حول هويته و إخباره بالأفعال المنسوبة إليه مما يمكن معه القول بأن من يتبع تاريخ تشريعات الجنائية و الممارسات القضائية في الميدان الجنائي على الخصوص إبان الثورة إنما يتابع تاريخ اللامشروعية و اللاإنسانية و تاريخ إهدار حريات الأفراد و أداميتهم
ثانيا : مرحلة الإستقلال و صدور قانون الإجراءات الجزائية
ظروف المرحلة لم تسمح بوضع قوانين خاصة بالجزائريين فظل العمل بالقوانين الفرنسية إلا ما يخالف مبدأ السيادة الوطنية.
و بعد العمليات التحضيرية التي قامت بها اللجان المختصة صدر بتاريخ 1966 قانون الإجراءات الجزائية، و قد إستمد أحكامه من القانون الفرنسي .
لقد تبنى المشرع الجزائري و على غرار التشريع الفرنسي مبدأ حرية الإثبات الجنائي و هذا ما أشير إليه في المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية التي تنص " يجوز إثبات الجرائم بأي طريق من طرق الإثبات ماعدا الأحوال التي ينص فيها القانون على غير ذلك، و للقاضي أن يصدر حكمه تبعا لإقتناعه الخاص، و لا يسوغ للقاضي أن يبني قراره إلا على الأدلة المقدمة له في معرض المرافعات و التي حصلت المناقشة فيها حضوريا أمامه " و إنطلاقا من هذه المادة أعطى المشرع الجزائري الحرية الكاملة في إثبات الجرائم بأي وسيلة كانت إلا في حالات إستثنائية على خلاف المسائل المدنية التي قيد فيها القاضي بضوابط و أحكام لا يجوز له أن يحكم بغير ذلك .
تفسير حرية الإثبات مرده إلى طبيعة الوقائع محل الدعوى، فمن غير الممكن أن يوضع لهذه الأخيرة طرق إثبات محددة، فيمكن اللجوء في إطار الدعوى الجنائية إلى الإثبات بالكتابة أو الشهادة أو الإقرار كما يمكن اللجوء إلى وسائل أخرى مثل المعاينة و الخبرة.
و نعني بحرية الإثبات أن يكون القاضي حرا في أن يستعين بكافة طرق الإثبات للبحث عن الحقيقة و التوصل إليها، و بناءا على ذلك للقاضي الحنائي إتخاذ أي إجراء يراه مناسبا للتوصل إلى حل للنزاع سواءا من تلقاء نفسه أو بناءا على طلبات الخصوم، كما للقاضي الجزائي الحرية في تقدير عناصر الإثبات الذي يستمد منها إقتناعه و تقدير قيمة الأدلة المعروضة عليه، و له أن يكون عقيدته من أي مصدر يطمئن إليه، غير أن هذا الإقتناع تحكمه ضوابط عدة أهمها : أن يكون الإقتناع منطقي أي أن لا يكون مبني على التصورات الشخصية للقاضي، بل أكثر من ذلك فهو ملزم بأن يتحرى المنطق الدقيق في الطريقة التي توصل بها إلى هذا الإقتناع، و هو يخضع لرقابة المحكمة العليا فيما يخص صحة الأسباب التي إستدل بها على إقتناعه، لذا أوجب المشرع على القاضي أن يضمن أحكامه الأسباب التي بني عليها، كما على القاضي أن يظهر مضمون الأدلة و الواقعة المستوجبة للعقوبة و الظروف التي أحاطت بها، و أن يشير في حكمه إلى نص القانون الذي أصدرحكمه بموجبه، و أن يفصل في الطلب الذي تقدم به الخصوم دون نسيان ذكر الأسباب .
يطبق مبدأ حرية الإثبات أو مبدأ الإقتناع الشخصي للقاضي الجزائي في جميع أنواع المحاكم و في جميع مراحل الدعوى الجزائية .
و قد أورد المشرع الجزائري إستثناءات قيد فيها حرية الإثبات في المسائل الجزائية بوسائل معينة على النحو التالي :
* وسائل الإثبات المبعدة :
أغلب طرق الإثبات التي وجدت في العصور القديمة إستبعدت في الوقت الحالي كالإثبات الإلهي و المبارزة القضائية و اليمين الحاسمة.
* وسائل الإثبات المفروضة :
و هي تلك الوسائل التي أوجب المشرع الإستناد إليها في إثبات جرائم معينة فجريمة الزنا لا يمكن إثباتها إلا بالطرق التي حددها القانون و هذا ما ورد في نص المادة 341 من قانون العقوبات التي تنص " الدليل الذي يقبل عن إرتكاب الجريمة المعاقب عليها بالمادة 339 يقوم إما على محضر قضائي يحرره أحد رجال الضبط القضائي عن حالة تلبس، و إما بإقرار وارد في رسائل و مستندات صادرة من المتهم و إما بإقرار قضائي.
المبحث الثاني : نظم الإثبات الجزائية الرئيسية
هناك ثلاثة أنظمة للإثبات الجنائي تختلف فيما بينها في الأسس التي يقوم عليها كل واحد منها و هذه الأنظمة هي : نظام الإثبات القانوني او المقيد و فيه يحدد القانون الأدلة التي يجوز الأخذ بها و الإستناد إليها في الحكم، و ثانيها نظام الإثبات الحر أو ما يعرف بنظام الإثبات المعنوي أو المطلق و فيه لا يقيد القانون أطراف الدعوى بأدلة معينة، بل لهم إثبات الواقعة المدعى بها بكل الوسائل و الطرق المتاحة له و للقاضي أن يقتنع بأي دليل يعرض عليه
حسب التكييف المتوصل إليه للواقعة القانونية موضوع النزاع، و ثالثهما النظام المختلط أو النظام الوسط و هو النظام الجامع بين النظامين .
المطلب الأول : نظام الإثبات الجزائي القانوني
سنتعرض لماهية هذا النظام من خلال عرض فكرته الرئيسية ثم نتعرض إلى خصائصه و عيوبه.
الفرع الأول : مضمون نظام الإثبات الجزائي القانوني
تقوم الفكرة الأساسية لهذا النظام على أن المشرع هو الذي يكون له الدور الرئيسي في الإثبات و ذلك من خلال التحديد المسبق للأدلة المقدمة في الدعوى و التي يستند إليها القاضي الجنائي في الحكم.
و القاضي وفق هذا النظام يتقيد في حكمه بالإدانة أو البراءة من خلال الأدلة التي رسمها القانون دون ميوله و إقتناعه الشخصي بصحة الأدلة المقدمة له في كل واقعة تعرض عليه، إذ يقوم إقتناع المشرع مقام إقتناع القاضي، و عليه فإن اليقين القانوني يقوم أساسا على إفتراض صحة الدليل بغض النظر عن حقيقة الواقع أو إختلاف ظروف الدعوى، و يتجلى دور القاضي في هذا النظام كمطبق فحسب من حيث مراعاة توافر الدليل و شروطه، بحيث إذا لم تتوافر هذه الشروط و تلك الشكليات التي يتطلبها القانون في الدليل، فإن القاضي لا يستطيع أن يحكم بالإدانة حتى و لو كان إقتناعه يقينيا بأن المتهم مدان في الجريمة المستندة إليه.
الفرع الثاني : خصائص نظام الإثبات الجزائي القانوني
يقوم هذا النظام على بعض الخصائص منها:
* أن دور القاضي الجنائي سلبي :
يعتبردور القاضي سلبيا أمام الأسانيد و الحجج المقدمة له من طرف الخصوم، فهو يستمع لهم و يفحص الدليل و يحكم بناء عليه.
* أن الإثبات الجنائي يخضع في نظام الأدلة القانونية لقواعد شكلية تتضح في سلطة القاضي المقيدة في تقدير عناصر الإثبات التي يستمد منها إقتناعه و تقدير قيمة الأدلة المعروضة عليه.
* كما يتميز نظام الإثبات القانوني بخاصية هامة مفادها أن المشرع هو الذي يكون له الدور الإيجابي في عملية الإثبات في الدعوى الجزائية من حيث أنه هو الذي ينظم قبول الأدلة سواء عن طريق تعيين الأدلة المقبولة للحكم بالإدانة أو بإستبعاد أدلة أخرى أو بإخضاع كل دليل لشروط معينة، و أيضا أنه هو الذي يحدد القيمة الإقناعية لكل دليل بأن أعطى لبعض الأدلة الحجة الأقوى دون الأدلة الأخرى، و دور القاضي في هذا النوع من أنظمة الإثبات دور لا يتعدى مراعاة توافر الأدلة و الحجج القانونية بحيث إذا لم تتوافر لا يجوز للقاضي أن يحكم بالإدانة حتى و لو إقتنع أن المتهم مدان.
الفرع الثالث : عيوب نظام الإثبات الجزائي القانوني
رغم المزايا التي سبق ذكرها كخصائص هذا النظام المذكورة إلا أن الأخير لم يسلم من النقد و من جملة الإنتقادات التي وجهت له و ما يلي :
1- ما عيب على هذا النظام بالدرجة الأولى أنه أخرج القاضي من وظيفته الطبيعية التي تتجلى في فحصه الدليل و تقديره و تكوين إقتناعه الشخصي .
2- إقحام المشرع في وظيفة القاضي و إملاء أدلة الإدانة عليه على سبيل الحصر و بالتالي إستبعاد الإقتناع الشخصي للقاضي .
3- عيب أيضا على هذا النظام أنه قام بتقنين اليقين في نصوص قانونية عامة و محددة سلفا رغم أن اليقين مسألة يطرحها الواقع و هو حالة مرتبطة بظروف القضية، و اليقين في جوهره مرتبط بتقدير قاضي الموضوع و ليس المشرع .
4 - أنتقد هذا النظام أيضا لأنه وضع القاضي في في قالب جامد للإثبات و غاية المشرع من هذا الجمود هو حماية الإنسان في براءته، غير أن هذا أدى إلى إفلات حالات كثيرة من العقاب و هذا يشكل خطورة بنظام العدالة.
5- أنه غلب مصلحة على حساب مصلحة أخرى، في حين كان عليه أن يقيم موازنة معتدلة بين حق المتهم في البراءة و حق المجتمع في توقيع العقاب.
6- و عيب عليه قصوره في الوصول إلى الحقيقة بمعناها المطلق، فالقاضي غير حر في شأن الأدلة المقدمة إليه، بل يسير وفقا للإجراءات التي وضعها المشرع مسبقا في القانون و هذا ما يحول دون كشف الحقيقة.
7-عيب أيضا على النظام أنه جعل القاضي يقف موقف سلبيا من النزاع المعروض عليه، لأن القانون قد حدد دوره في الإستماع لعرض الخصوم لأدلتهم التي قد تكون غير كافية كلها أو بعضا منها أو يشوبها نقص.
8- عيب عليه أنه ساوى بين الدعوى المدنية و الدعوى الجنائية و أغفل الخلاف الجوهري بين الخصومتين و أدلة الإثبات في كل منهما .
المطلب الثاني : نظام الإثبات الجزائي الحر
الفرع الأول : مضمون نظام الإثبات الجزائي الحر
يقوم هذا النظام على ركنين أساسيين:
* الأول : يتمثل في إطلاق حرية الإثبات لأطراف الدعوى و القاضي الجنائي إنطلاقا من أن القضاء الجنائي يختلف عن القضاء المدني في موضوع الإثبات، ذلك أن موضوع الإثبات في المسائل الجنائية يتعلق بوقائع مادية و نفسية لا يصلح لإثباتها تحديد مجموعة من القواعد التشريعية مسبقة، بل أن الإثبات في المسائل الجنائية يكون بكافة السبل لجميع أطراف الخصومة الجنائية سواء النيابة العامة كونها سلطة إتهام يكون عليها إثبات التهمة بكل طرق الإثبات أو المتهم الذي له أن له أن يدفع بكل طرق الإثبات عن نفسه إسناد الفعل المجرم و القاضي له كامل الحرية لإجراء التحقيق و البحث قي الأدلة المقدمة من أطراف الخصومة في الجلسة و ذلك حتى يكون إقتناعه.
* الثاني : يتمثل في حرية القاضي الجنائي في الإقتناع، إذ إن حرية القاضي الجنائي في الإقتناع بالدليل المطروح عليه في جلسة المحاكمة تعني أن القاضي حر في تكوين إقتناعه دون أن يكون عليه أي رقيب إلا ضميره و دون أن يطالب ببيان سبب إقتناعه بدليل دون الآخر .
غير أن حرية القاضي في الإقتناع ليست مطلقة من كل قيد بل ترد عليها بعض القيود الخاصة تتعلق أساسا بتسبيب الحكم و التي تخضع لرقابة جهات الطعن.
يتبع ...
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma