مقـــدمـــة:
إن الحق المجرد من الدليل يصبح عند المنازعة فيه من الناحية القانونية و العدم سواء، و لما كان لدليل الإثبات كل هذه الأهمية فإن مختلف التشريعات قد عملت على تنظيم قواعده، و بيان الوسائل التي تمكن القاضي من الوصول إلى الحقيقة.
و في كثير من القضايا فإن طرفي الخصومة كلاهما أو بعضهما يأتي إلى المحكمة بطلبات دون أن يعززها بالأدلة المطلوبة قانونا، أو أن أحد الأطراف يطعن في صحة الدليل الذي قدمه الطرف الآخر و بما أنه على القاضي أن يفصل في الدعوى، و توخيا في أن يكون هذا الفصل بما يحقق العدالة و يحافظ على استقرار المعاملات و الحقوق المكتسبة، فإن مختلف التشريعات أفردت ضمن قوانينها ما يخول للقاضي سواء من تلقاء نفسه، أو بناء على طلب أطراف الدعوى على اتخاذ مجموعة من الإجراءات تجعل من حكمه في الدعوى مبنيا على أسس قانونية و واقعية بما يجعل من الحقيقة القضائية التي توصل إليها قريبة من الحقيقة الواقعية إن لم تكن مطابقة لها.
و قد نص المشرع الجزائري على هذه الإجراءات فيما يخص القاضي المدني في قانون الإجراءات المدنية انطلاقا من نص المادة 43 منه تحت تسمية إجراءات التحقيق، فنص على الخبرة، الشهادة، اليمين، مضاهاة الخطوط الانتقال للمعاينة، و دعوى التزوير الفرعية، كما نص على الحالات التي يلجأ فيها إلى إجراء من هذه الإجراءات، و الشروط الواجب مراعاتها، و قد اختلفت التشريعات في تحديد هذه الشروط و الحالات غير أن ما يهمنا في هذه المذكرة هي السلطة التي يتمتع بها القاضي المدني في إجراءات التحقيق تقييدا و إطلاقا، و ذلك انطلاقا من عنوان المذكرة، سواء من حيث الأمر بها أو من حيث تقدير الدليل الناتج عنه إذ سلكت التشريعات في ذلك مذاهب عدة، سواء بتقييد سلطة القاضي كأن تضع له طرق الحصول على الدليل أو التحقيق فيه على سبيل الحصر دونما أي سلطة تقديرية له، كما تبين له قوة كل دليل، و إما بإطلاق يده في البحث عن الحقيقة بأي وسيلة يراها مناسبة، و إعطاء الدليل المتحصل عليه القوة التي يقدرها، و لا شك في أن المذهبين السابقين فيهما تطرف إلى جهة معينة، و لذلك فقد سلكت بعض التشريعات مسلكا وسطا حاولت من خلاله الأخذ بمزايا المذهبين السابقين مع تحاشي ما فيهما من عيوب.
و انطلاقا من هذا فإن لمعرفة سلطات القاضي المدني في إجراءات التحقيق في الدعوى أهمية عملية و علمية خاصة و أنه تقع على القاضي مهمة البحث عن الحلول لما يطرح عليه من قضايا في إطار القانون، فعليه بالإضافة إلى وجوب إحترامه شروط الأمر بإجراء التحقيق عليه أيضا إعطاء الدليل المتحصل عليه من جراء التحقيق القيمة التي منحها له القانون.
فمعرفة القاضي للسلطات التي يتمتع بها أثناء إجرائه التحقيق في الدعوى تجعله على علم متى و أين يستعملها مما يجعل من دوره في الدعوى ذو طابع إيجابي دون أن يخل بمبدء حياده، فمن خلال هذا البحث نحاول إبراز أن مبدء حياد القاضي لا يعني اتخاذه موقفا سلبيا بحيث يكتفي بتلقي ما يجود به طرفي الدعوى من أدلة و لا يتأتى هذا الإبراز إلا من خلال تعداد سلطاته و حصر الدور المنوط به قانونا بغية إظهار طابعه الإيجابي، مع التركيز في ذلك على هذه السلطات على مستوى المحاكم دون ، مع التركيز في ذلك على هذه السلطات على مستوى المحاكم دون إهمال خصوصيات التحقيق على مستوى المجالس القضائية.
ومن خلال هذه المذكرة أيضا سوف نقف عند أي مذهب سلكه المشرع الجزائري حين نصه على إجراءات التحقيق في الدعوى من جهة، ومن جهة أخرى فإننا سنحاول تحديد الطرق التي تمكن القاضي من الوصول إلى الحقيقة وفقا للقانون، فمعرفة الطريق السليم تؤدي حتما إلى استعماله عند الحاجة بصورة صحيحة.
و في أثناء ذلك فإننا سنتطرق إلى ما يقابل ذلك في مختلف التشريعات الأخرى مع التركيز على التشريع المصري باعتباره من التشريعات الأقرب للتشريع الجزائري في هذا المجال و بالنظر إلى مختلف التغييرات التي طرأت عليه في تعديل قانون الإثبات سنة 1968، و كذا بالتركيز على الفقه الإسلامي بإعتباره بحرا بلا شاطئ و غني بالأراء في أعمال القضاء و القضاة، الأمر الذي يفتح المدارك و يقرب الفكر القانوني السليم مع التطرق إلى مختلف القرارت القضائية في هذا الشأن، كل ذلك من أجل الإجابة على الإشكالية الرئيسية لهذا البحث و هي : أين و متى تتمثل سلطات القاضي المدني في إجراءات التحقيق في الدعوى ؟.
و لمعالجة هذا الموضوع بالصورة اللازمة للإجابة على الإشكالية أعلاه اتبعنا أسلوب تحليل المواد القانونية مع مقارنتها بمثيلتها مثلما سبق بيانه، و أن تكون البداية بحصر و تحديد النطاق و المجال الذي يمكن فيه للقاضي التحرك بداخله بشكل قانوني، أي الحالة التي يمكن فيها للقاضي مناقشة إجراءات التحقيق من حيث إمكانية اللجوء إليها للفصل في النزاع بصورة صحيحة من عدمه، فتطرقنا إلى المبادئ العامة التي يجب على القاضي مراعاتها حين اتخاذ أي إجراء من هذه الإجراءات، بعدها تطرقنا إلى سلطته داخل هذا النطاق، و ذلك بالتطرق إلى سلطاته في كل إجراء على حدى من حيث مدى سلطته في الأمر به، و تقدير الدليل الناتج عنه ما بين الإطلاق و التقييد، و في أثناء ذلك فإننا سنحاول التطرق إلى العديد من الإشكاليات المطروحة في هذا الجانب مع التركيز عند الضرورة على ما هو جار به العمل في الميدان، مع تفصيل ذلك من خلال خطة محاورها الرئيسية هي:
مقدمة.
الفصل الأول: المبادئ العامة التي تحكم سلطة القاضي المدني في اجراءات التحقيق في الدعوى.
المبحث الأول: مبدأ حياد القاضي.
المبحث الثاني: وجوب توفر شروط معينة في الواقعة محل التحقيق.
الفصل الثاني: مظاهر سلطة القاضي المدني في إجراءات التحقيق في الدعوى.
المبحث الأول: سلطة القاضي المدني في الأمر بإجراء التحقيق في الدعوى.
المبحث الثاني: سلطة القاضي المدني في العدول عن الأمر بإجراء التحقيق و تقدير الدليل الناتج عنه.
الخاتمة.
الفصل الأول: المبادئ العامة التي تحكم سلطة القاضي المدني في إجراءات التحقيق في الدعوى:
لقد خول المشرع مجموعة من السلطات للقاضي حين إجرائه التحقيق في الدعوى غير أن هاته السلطات ليست على إطلاقها وإنما مقيدة في بعض الحالات ، تارة بنص القانون وتارة أخرى بمجموعة من المبادئ القانونية التي تنظم الهيكل القانوني لبلد ما، والتفصيل أكثر في هذا الأمر يحتم علينا التطرق إلى دور القاضي في الدعوى و ذلك من خلال التطرق لمبدء حياد القاضي في معناه و مدلوله، و من خلال التطرق أيضا إلى الشروط الواجب على القاضي التأكد منها في الواقعة محل التحقيق إذ على القاضي و قبل مناقشة مدى إمكانية الأمر بإجراء التحقيق من تلقاء نفسه، أو بناءا على طلب الخصوم أن يناقش الواقعة من حيث أهمية إثباتها بواسطة التحقيق فيها، و مدى تعارض ذلك مع أحد أهم مبادئ القضاء ألا و هو مبدء حياده، و سنتطرق إلى كل ذلك من خلال المبحثين التاليين:
المبحث الأول: مبدأ حياد القاضي.
المبحث الثاني: وجوب توفر شروط معينة في الواقعة محل التحقيق.
المبحث الأول : مبدأ حياد القاضي:
يعتبر مبدأ حياد القاضي أهم مبدأ يحد من سلطات القاضي في الدعوى المدنية لفائدة الخصوم، والتطرق لهذا المبدأ في حقيقة الأمر متشعب يحتاج إلى الكثير من التفصيل، غير أن أهم النقاط التي يستلزم التطرق إليها هي التعريف به مع التطرق إلى أهم المبادئ المشتقة منه و هي: عدم قضاء القاضي بعلمه الشخصي ومبدأ مواجهة الدليل بضده. و ذلك من خلال المطلبين التاليين:
المطلب الأول: التعريف بمبدأ حياد القاضي.
المطلب الثاني:المبادئ المتفرعة عن مبدأ حياد القاضي.
المطلب الأول: التعريف بمبدأ حياد القاضي:
إن التطرق إلى مبدء حياد القاضي يحتم علينا التطرق إلى المقصودمنه، و إلى مختلف مذاهب الإثبات على إعتبار أن حصر وتحديد دور القاضي في الخصومة لا يتأتى إلا بالتطرق لها، مع الإشارة إلى موقف التشريعات الحديثة و بالأخص التشريع الجزائري، و عليه فقد قسمنا هذا المطلب إلى الفرعين التاليين:
الفرع الأول: المقصود بمبدء حياد القاضي.
الفرع الثاني: مذاهب الإثبات.
الفرع الأول: المقصود بمبدء حياد القاضي:
الحقيقة أن هذا المبدأ كغيره من المبادئ العامة مبدأ مرن يتميز بجانب من الغموض الذي يجعل منه غير واضح بالشكل الكافي واللازم، وقد اختلف الفقه في تحديد المقصود به كما اختلفت التشريعات في تحديد دور القاضي في الخصومة المدنية فكان قديما ينظر إلى فكرة حياد القاضي نظرة سلبية مردها النزعة الفردية التي كانت سائدة عند صدور القانون الفرنسي - قبل التعديلات التشريعية الحديثة - حيث كانت تغلب الحرية الفردية التي كان معناها حماية المصالح الخاصة في مواجهة الصالح العام الاجتماعي فيتقيد القاضي بما يقدمه الخصوم من أدلة دون أي تدخل من جانبه [1] ، غير أنه مع تطور القانون الوضعي سواء في فرنسا أو في مصر، ومع بروز المذهب الاشتراكي حدث تغييرفي المقصود من مبدأ حياد القاضي فلم يعد يقصد به أن يقف القاضي موقفا سلبيا مع كلا الخصمين ، وإنما يقف موقفا وسطا بين الإيجابية و السلبية [2] ، وقد أكدت هذا الدور المذكرة الإيضاحية المصرية لقانون1969 / 25 المتعلق بالإثبات حيث جاء فيها:" إن أهمية الإثبات تبدو أكثر وضوحا في مجتمع اشتركي لا يكتفي بتقرير الحقوق بل يحرص على تأكيد تمتع أصحابها بثمراتها، ومن ثمة يكون من المتعين في ظل هذا المجتمع ألا تقف شكلية الدليل المهيأ أو إجراءات تقديم الأدلة للقضاء عائق يحول دون تمتع أصحاب الحقوق بثمراتها " [3] .
غير أن هذا لا يعني أن التدخل الايجابي للقاضي معناه تحيزه في الحكم ، وإنما يكون هذا التدخل دون أن يصل إلى درجة الانحياز إلى أحد الخصوم .
وفهم مبدأ حياد القاضي بصورة أوضح من أجل تحديد سلطته في إجراءات التحقيق في الدعوى لا يتأتى إلا بالتطرق إلى الاعتبارات التي حددت موقف المشرع من مسألة الإثبات وهي اعتبارات تتأرجح بين موجبين : الاعتبار الأول وهو يرمي إلى تغليب جانب العدالة بتفضيل الحقيقة الواقعية على الحقيقة القضائية ، فيطلق للقاضي الحرية في تقديرها والوصول إليها من أي طريق كان ، أما الموجب الثاني فهو يغلب استقرار المعاملات ، فيفرض على القاضي احترام بعض الأشكال والمظاهر المستقرة بين الناس فلا تثبت الحقيقة القضائية إلاعن طريق معين رسمه القانون و هذه الطريق قد تنطمس معالمها في بعض الأحيان مما يجعل الحقيقة القضائية بعيدة كل البعد عن الحقيقة الواقعية [4] .
الفرع الثاني: مذاهب الإثبات:
لقد اختلفت التشريعات في تحديد سلطة القاضي في الدعوى فيما يتعلق بالإثبات من خلال اعتمادها على مذهب من المذاهب الثلاث الآتية :
أولا : مذهب الإثبات المطلق ( الحر) : وفق هذا المذهب فإن للقاضي مطلق السلطة وكامل الحرية من أجل إجراء أي تحقيق في الوقائع التي يعرضها عليه الخصوم ، واستنباط النتائج التي يهتدي إليها ، كما له استعمال الحيل مع الخصوم لانتزاع الإقرارات والحجج ، وله أن يقضي بعلمه الشخصي الذي تحصل عليه خارج الجلسة ، كما يستعمل معرفته في الخصوم من صدق ونزاهة وأمانة أو العكس ، ومن نتائج هذا المذهب أن الحقيقة القضائية قريبة أو مطابقة للحقيقة الواقعية ، وللقاضي استكمال ما نقص من الأدلة كما له السلطة التامة في اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق من تلقاء نفسه ودون طلب من أحد الخصوم [5] .
وقد أخذت بهذا المذهب معظم الشرائع القديمة ، ولا يزال معمولا به في الوقت الحاضر في التشريعات الجرمانية و الأنجلوساكسونية ، كما يعتبر المبدأ الشاذ في بعض المذاهب الإسلامية و تحمس له ابن قيم الجوزية الذي قال:" إذا ظهرت آمرات العدل واستقر وجهه بأي طريق كان فثمة شرع الله " .
ومن هذا الباب أيضا ما جاء عن النبي سليمان عليه السلام من أن امرأتين اختصمتا إليه في شأن ولد ادعته كل واحدة منهما، فقال اتوني بالسكين أشقه بينكما فسمحت الكبرى بذلك بينما قالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى [6] .
وانتقد هذا المذهب على أساس أنه مؤسس على افتراض نزاهة القاضي مطلقا مع أنه مجرد بشر معرض لإغراءات النفس وتقلباتها و هو غير معصوم، كما أن هذا المذهب يعرض المتقاضين إلى مفاجأة غير سارة وسلبهم الاطمئنان إلى القضاء، والتناقض في الأحكام مما ينتج معه عدم توفر الثقة والاستقرار في التعامل.
ثانيا: مذهب الإثبات المقيد : وفيه يقتصر دور القاضي على مجرد تلقي الإثباتات التي يقدمها الخصوم وتقديرها طبقا للقانون، إذ له دور سلبي وأي دور ايجابي له يفسر على أنه خرق لمبدأ حياد القاضي وانحياز لأحد الخصوم على حساب الخصم الآخر، وكان الغرض من ظهور هذا المذهب تفادي عيوب مذهب الإثبات الحر وذلك بالحد من سلطة القاضي في الدعوى من خلال ثلاثة جوانب هي :
1- حصر وسائل الإثبات وتحديد قيمة كل منها.
2- أن القاضي لا يملك أن يجعل لأي نوع من أنواع الأدلة قيمة أكثر أو أقل مما حدده القانون.
3- أن القاضي ملزم بعدم القضاء بعلمه الشخصي.
فيقتصر دور القاضي إذن في هذا المذهب على سماع الخصوم والتصريح بما يرتبه القانون على ما يقدمونه من الأدلة والبراهين، وهذا المذهب هو الغالب في الفقه الإسلامي عموما فنصاب الشهادة مثلا محدد و بتوافره يجب على القاضي أن يأخذ بها وليست له حرية في التقدير، ويتفاوت نصاب الشهادة ونوعيتها من واقعة إلى أخرى في حدود مقدرة تقديرا يكاد يكون حسابيا [7].
غير أن هذا المذهب انتقد على أساس أنه يجعل القاضي ذو وظيفة آلية، كما أنه يباعد بين الحقيقة الواقعية والحقيقة القضائية.
ثالثا : مذهب الإثبات المختلط : و للقاضي فيه دور وسط، إذ يمنحه القانون جانب من الحرية في تحريك إجراءات التحقيق في الوقائع المدعى بها، غير أن هذا التدخل لا يكون إلا في حدود معينة فلم يترك القانون للقاضي المبادرة الكاملة ولم يجعل للخصوم سلطان مطلق على سير الدعوى، ويتميز هذا المذهب بأنه يجمع بين استقرار المعاملات بما يحتوي عليه من قيود وبين اقتراب الحقيقة القضائية من الحقيقة الواقعية بما يفسح للقاضي قسطا من حرية التقدير [8].
موقف التشريعات الحديثة: لقد أخذت أغلب التشريعات الحديثة وبالأخص التشريع الفرنسي والمصري بالمذهب المختلط، وتبعهما في ذلك أغلبية تشريعات الدول العربية، ومنها التشريع الجزائري [9].
على أن الأخذ بالمذهب المختلط لا يعني أن سلطة القاضي هي نفسها حين نظره في الدعوى الجنائية ونظره في الدعوى المدنية، إذ أن التشريعات التي أخذت بهذا المذهب تقوم في المسائل الجنائية على حرية القاضي في تكوين اقتناعه من أي دليل يقدم إليه،و يقوم في المسائل المدنية على التقييد، فيحدد طرق الإثبات ويعين قيمة البعض منها، ويترك بعضها الآخر لتقدير القاضي [10] ، ويقترب الإثبات في المعاملات التجارية من الإثبات في المسائل الجنائية إذ تنص مختلف التشريعات على حرية الإثبات ومن بينها القانون التجاري الجزائري في المادة 30 منه.
فعلى القاضي إذن أن يحترم حدود سلطته في الإثبات طبقا لما خوله القانون.
مع الإشارة إلى أن القواعد الإجرائية المتعلقة بالإثبات ومن ثمة بإجراءات التحقيق غالبا ما تكون من النظام العام، فيلتزم بها الخصوم والقضاة على حد سواء، فلا يستطيع الخصوم فرض إجراءات على القاضي لم ينص عليها القانون، و لا يملك هذا الأخير تطبيق إجراءات غير مقررة في القانون، و أما قواعد الإثبات الموضوعية فإن الرأي الراجح يقسمها إلى : قواعد متعلقة بسلطة القاضي في الإثبات [11]، و قواعد متعلقة بالضمانات الأساسية لحق الدفاع كما هو الشأن في قاعدة المجابهة بالدليل، و قواعد تتضمن قيودا على حرية الإثبات فكلها تتعلق بالنظام العام لا يجوز مخالفتها، و أما قواعد الإثبات الموضوعية غير المتعلقة بالنظام العام فتضم القواعد التي تتضمن قيودا على حرية الإثبات و لا تقرر ضمانات أساسية لحق الدفاع ، كما لا تتصل بسلطة القاضي في الإثبات مثل عبء الإثبات ، و تلك التي تجيز الإثبات بشهادة الشهود في التصرفات المدنية التي لا تزيد عن مبلغ معين، و لهذا يجوز الاتفاق على مخالفة هذه القواعد مقدما و لا يجوز للمحكمة أن تقضي بها من تلقاء نفسها ، كما لا يجوز التمسك بها لأول مرة أمام المحكمة العليا.
ونصت المادة 43 من قانون الإجراءات المدنية على :" يجوز للقاضي بناءا على طلب الأطراف أو أحدهم أو من تلقاء نفسه، أن يأمر قبل الفصل في الموضوع، و بموجب أمر شفوي بحضور أحد الأطراف شخصيا أو بإجراء تحقيق أو تقديم وثيقة، و بموجب أمر كتابي، بإجراء الخبرة أو التحقيق في الكتابة أو بأي إجراء آخر من إجراءات التحقيق، و له أن يأمر شفاهيا بالإنتقال للمعاينة ما لم ير ضرورة إصدار أمر كتابي".
و عليه يثور التساؤل حول مدى تعارض نص هذه المادة مع المبادئ المقررة في المذهب المختلط للإثبات، إذ يتضح من نص هذه المادة أن للقاضي الحرية المطلقة في اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق دون التفرقة بين إجراء وآخر، و إطلاق هذا النص يجعل من الصعب القول بأن المشرع الجزائري أخذ بالمذهب المختلط ، و ورد في هذا الشـأن عدة قرارات من المحكمة العليا تؤكد بأن للقاضي سلطة تقديرية في طلب تقديم أي وثيقة من أي خصم مادامت هذه الوثيقة ذات صلة بالنزاع و مادام الطلب قبل إقفال باب المرافعة [12] ،غير أنه حسب قرار آخر للمحكمة العليا رقم 150865 مؤرخ في 25/02/1998،فإن المادة 43 ق إ م لا تخص سوى الإجراءات المتعلقة بالموضوع دون الشكل، فيستشف من هذا القرار أن القاضي لا يمكنه الأمر بأي إجراء من إجراءات التحقيق في مسألة تتعلق بشكل الدعوى، إذ جاء فيه:" ...و من الثابت –في قضية الحال- أن قضاة المجلس قد أخطأوا عندما اعتبروا أن الصفة مسألة تتعلق بالشكل في حين أنها تشكل في حد ذاتها مسألة تتعلق بالموضوع، إذ يجب على الجهات القضائية معاينة ثبوتها أو دحضها باللجوء إلى إجراءات تحقيق مناسبة طبقا لمقتضيات المادة 43 من قانون الإجراءات المدنية..." [13].
المطلب الثاني:المبادئ المتفرعة عن مبدء حياد القاضي:
تتجلى أهمية مبدء حياد القاضي أكثر من خلال عدة مبادئ متفرعة عنه، و لعل أهمها هو عدم جواز القضاء بعلمه الشخصي، و إحترام الحق في الإثبات و مواجهة الدليل ضده، فإن أخل القاضي بأحد هاته المبادئ فإنه يكون لا محالة قد أخل بحياده، و على هذا الأساس فإننا سنتطرق من خلال هذا المطلب إلى الفرعين التاليين:
الفرع الأول: عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي.
الفرع الثاني: الحق في الإثبات و مواجهة الدليل بضده:
الفرع الأول: عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي:
يقصد بعلم القاضي علمه بوقائع الدعوى و أسباب ثبوتها، فهل يستطيع القضاء بما يصل إلى علمه الشخصي من معلومات من غير طريق الخصوم و خارج نطاق الأدلة التي يقررها القانون؟.
بالنسبة للقوانين الوضعية الحديثة: لقد استقرت أغلب التشريعات الحديثة على عدم جواز قضاء القاضي بعلمه الشخصي، و استقر القضاء الفرنسي على أنه لا يحق للقاضي أن يأخذ بعين الاعتبار إلا الأدلة التي أقرها القانون [14] ، و التي يقدمها الخصوم طبقا لقواعد الإجراءات فيمنع عليه الاستناد إلى المعلومات التي وصلت إلى علمه بواسطة الرسائل التي يبعثها إليه الخصوم، إما إليه مباشرة و إما عن طريق شخص آخر، و يستند هذا المبدأ على قاعدة وجوب احترام حقوق الدفاع التي تستلزم ألا يأخذ القاضي إلا بالوقائع التي أظهرها الخصوم في جلسة الحكم، و إلا أصبح في هذه الحالة علم القاضي عبارة عن دليل في القضية و لما كان للخصوم حق مناقشة هذا الدليل فإن الأمر يقتضي أن ينزل القاضي منزلة الخصوم فيكون خصما و حكما وهذا لا يجوز [15]، غير أن هذا المبدأ لا يمنعه من أن يستعين في قضائه بما هو متعارف بين الناس لأنه ليس علما خاصا به دون غيره ، كمثل بعض المعلومات الفنية الثابتة أو بعض المعلومات الجغرافية و العلمية.
و عليه فليس للقاضي و إن كان ذا اختصاص في مجال الطب مثلا، أن يستعين بخبرته الطبية بل عليه أن يعين خبيرا للقيام بالخبرة اللازمة و التي تكون محلا للنقاش من طرف الخصوم.
بالنسبة للفقه الإسلامي: أجمع العلماء على أنه من حق القاضي أن يقضي بعلمه في تعديل الشهود و تجريحهم، أما فيما عدا هاته المسألة فإن المذاهب مختلفة:
المالكية و الحنابلة: الراجح عندهم أن القاضي لا يقضي بعلمه مطلقا سواء في حد أو في حق من الحقوق، و ذهبوا إلى أبعد من ذلك فقالوا إذا أقر الخصم أمام القاضي ثم أنكر إقراره فلا يقضي القاضي بذلك الإقرار إلا إذا أشهد عليه،و حجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه و سلم:" إنما أنا بشر و إنكم تختصمون إلي و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه". فدل الحديث على أنه يقضي بما سمع لا بما يعلم، وذهب الإمام سحنون و عبد المالك من المالكية إلى أنه بإمكان القاضي أن يحكم بعلمه الشخصي، وهو نفس ما ذهب إليه الإمام ابن قيم الجوزية و الإباضية كما يقول الإمام ابن حزم الظاهري :" فرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء و القصاص و الأموال و الفروج و الحدود سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته و أقوى ما حكم به بعلمه ثم الإقرار ثم بالبينة" [16].
أما الحنفية فقالوا بأن القاضي لا يقضي بعلمه في الحدود، أما بالنسبة لحقوق العباد فإنه يجوز أن يقضي بما علم إذا كان ذلك العلم وقع في زمن ولايته ومحله، لأن علمه أولى من شهادة الشاهدين فالمقصود من البينة هو العلم بوقوع الحادثة و لما جاز له الحكم بها جاز له الحكم بعلمه بطريق أولى لأن البينة ليست مقصودة لذاتها، و أما ما علمه قبل ولايته أو في غير محله فلا يقضي به، و خرج عن هذا أبا يوسف و محمد فقالوا بجواز قضائه كما في حال ولايته و محلها [17]، و ليس له أن يحكم بعلمه في الحدود لأن الحدود يحتاط في درئها و ليس من الاحتياط الحكم بعلم نفسه.
الشافعية: الراجح عندهم أنه يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه مطلقا في غير حدود الله تعالى، و حجتهم حديث عائشة – رضي الله عنها- في قصة هند مع زوجها أبي سفيان حيث قال لها الرسول صلى الله عليه و سلم:" خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف". فقالوا أنه صلى الله عليه و سلم قضى لها دون أن يسمع قول خصمها و من غير بينة و لا إقرار لعلمه بصدقها.
و قالوا أن القاضي يحكم بما يفيد الضن عنده و هو الشاهدان أو شاهد و يمين، فمن باب أولى أن يحكم بما هو ثابت عنده [18].
الفرع الثاني: الحق في الإثبات و مواجهة الدليل بضده:
كل شخص يدعي بواقعة توافرت فيها الشروط اللازمة قانونا يكون له الحق في إثباتها ،فإذا لم يمكنه القاضي من ذلك، كان إهدارا لحقه في الإثبات و إخلالا بحقه في الدفاع يجعل الحكم مشوبا بالبطلان و محل نقض، و يخول هذا الحق للخصم إثبات الواقعة بالطرق التي حددها القانون، فإن كان القانون قد خول للشخص حق طلب إجراء تحقيق فيما ادعاه فليس للقاضي أن يرفض هذا الطلب دون أساس قانوني و على هذا الأساس يمكن للشخص طلب سماع شهود أو إجراء خبرة من شأنها إحداث الأثر القانوني الذي يجعل من الوقائع المدعى بها ثابتة في نظر القانون ومن ثمة في نظر القاضي، وفي القانون المصري له توجيه ما يراه من أسئلة للخصم من أجل الحصول على إقراره بالواقعة المسببة للأثر القانوني المتنازع عليه، إذ تنص المادة 105 من قانون الإثبات المصري: " للمحكمة أن تستجوب من يكون حاضرا من الخصوم ولكل منهم أن يطلب استجواب خصمه الحاضر"، كما يجوز لكل من الخصمين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى الخصم يقابله حق الخصم الآخر في ردها طبقا لما يتطلبه القانون [1] .
و حق الخصم في الإثبات يقابله حق الخصم الآخر في إثبات العكس، فله أن يطعن في صحة الورقة بالتزوير إذا كان ما قدمه المدعي لإثبات ادعائه ورقة رسمية، كما له أن ينكر الخط أو الإمضاء وأن يطعن في الورقة العرفية بالتزوير، وله أن يبين عكس ما هو ثابت بها بكتابة أخرى مثلها وفقا لما يقرره القانون و حق الخصم في إثبات العكس أو النفي يصدق أيضا بالنسبة للإقرار و اليمين، و قد نصت مختلف القوانين الحديثة على حق المجابهة بالأدلة مثلما هو واضح في المواد 94، 110 من قانون الإثبات المصري و المواد 226، 273 من قانون أصول المحاكات المدنية اللبناني [2].
ويترتب على هذه الوجاهية بالأدلة، أنه لا يجوز للشخص أن يصطنع لنفسه دليلا و لا أن يلزم بتقديم دليل ضد نفسه [3].
عدم جواز أن يصطنع لنفسه دليلا : و إلا ضاعت الحقيقة ما بين نزوات الناس و ذلك لأن الأصل في الدليل الذي يتمسك به ضد أحد الخصوم أن يكون صادرا منه فالورقة المكتوبة لكي تكون حجة على الخصم يجب أن تكون بخطة أو بإمضائه، " لو يعطي الناس بدعواهم لادعى أناس دماء رجال و أموالهم" [4] وبناءا عليه فإنه لا يجوز للقاضي أن يأمر بإجراء التحقيق من أجل تأكيد دليل اصطنعه الشخص لنفسه فمثلا لو ادعى شخص أنه يملك دليلا في ورقة حررها بنفسه فيما احتج المدعى عليه بأن هذا المحرر لم يحرره المدعي فإنه ليس للقاضي أن يأمر بإجراء خبرة من أجل التأكد إذا كان المحرر فعلا من صنع المدعي أم لا، لأنه أيا كانت النتيجة المتوصل إليها فإن ذلك لا يفيد في الدعوى شيئا، مع الملاحظة أن المشرع قد نص في بعض الحالات على جواز تمسك الشخص بدليل صادر منه، و مثال ذلك ما نصت عليه المادة 330 من القانون المدني من أن دفاتر التجار عندما تتضمن بيانات تتعلق بتوريدات قاموا بها يجوز للقاضي توجيه اليمين المتممة لأحد الطرفين فيما يجوز إثباته بالبينة، ومعنى ذلك أن بإمكان التاجر أن يستفيد من دليل في الإثبات من صنعه، فإذا قرر القاضي توجيه اليمين المتممة إليه فأنكر المدعي عليه صلة المدعي بتلك الدفاتر فللقاضي سلطة الأمر بإجراء تحقيق من أجل إثبات تلك الصلة. [5]
لا يجوز إلزام الشخص بتقديم دليل ضد نفسه : لا يجوز إجبار الخصم على تقديم دليل ضد نفسه مهما كان هذا الدليل قاطعا في الدعوى، غير أن الأخذ بهذه القاعدة على إطلاقها قد يؤدي في الكثير من الأحيان إلى إهدار الحقوق لعدم استطاعة أصحابها تقديم الدليل الذي يكون بحوزة الخصم الآخر، ولذلك نص القانون على مجموعة من الإستثناءات كما هو الحال في القضاء الإداري، و أيضا ما تنص عليه المادة 16 من القانون التجاري من أنه يجوز للقاضي أن يأمر ولو من تلقاء نفسه بتقديم الدفاتر التجارية أثناء قيام نزاع وذلك بغرض استخلاص ما يتعلق منها بالنزاع ، وهناك بعض التشريعات تجيز إجبار الخصم على عرض الدليل ولو كان ضده و ذلك عن طريق دعوى مستقلة تسمى بدعوى العرض أو دعوى الكشف و أخذ بها القانون الألماني و السويسري، كما أخذ بها القضاء الفرنسي دون وجود نص في القانون [6].
المبحث الثاني: وجوب توفر شروط معينة في الواقعة محل التحقيق:
لا يمكن للقاضي إعمال سلطته في إجراءات التحقيق سواء كانت مقيدة أو مطلقة، إلا بعد توافر مجموعة من الشروط في الواقعة محل المطالبة بإثباتها، و قد نصت على هذه الشروط في القانون الجزائري بصورة مباشرة المادة 61 من ق.إ.م، وهي أن تكون الواقعة محل النزاع متعلقة بالدعوى منتجة فيها و جائز إثباتها، و إدراك هذه الشروط له أهمية بالغة إذ أن الكثير من القضاة لا ينتبهون إليها و ينساقون وراء ادعاءات و مطالب الأطراف دون النظر إلى ما إذا كان الأمر بالتحقيق في تلك الوقائع منتج في الدعوى طبقا للقانون أم لا، وهكذا نجد قضايا تجاوزت العقد من يوم رفعها إلا أن النتيجة المتوصل إليها بعد الاستئناف و الطعن بالنقض و إجراء خبرة مضادة و ... الخ، أن مسار الفصل فيها خاطئ وغير قانوني بالتركيز على إثبات وقائع غير متعلقة بالدعوى أو غير منتجة فيها. و على ذلك فإننا سوف نتطرق من خلال هذا المبحث إلى المطلبين التاليين:
المطلب الأول: أن تكون الواقعة محل نزاع و متعلقة بالدعوى.
المطلب الثاني: أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى و جائزة الإثبات.
المطلب الأول: أن تكون الواقعة محل نزاع و متعلقة بالدعوى:
يجب على القاضي أولا أن يتأكد من أن الواقعة التي يريد أن تكون محلا للتحقيق محل نزاع ومتعلقة بالدعوى، و ذلك من أجل تفادي التحقيق في وقائع محل إقرار من الخصم باعتباره يعفي الخصم الآخر من الإثبات، و لتفادي أيضا التحقيق في وقائع غير متعلقة بالدعوى، و عليه قسمنا هذا المطلب إلى الفرعين التاليين:
الفرع الأول: أن تكون الواقعة محل نزاع.
الفرع الثاني: أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى.
الفرع الأول: أن تكون الواقعة محل نزاع:
يجب أن تكون الواقعة المراد إجراء التحقيق فيها متنازعا عليها كقاعدة عامة، فالواقعة المسلم بها لا فائدة من التحقيق فيها إذ الاعتراف بها بمثابة إقرار و الإقرار يعفي من الإثبات، ولكي تكون الواقعة متعلقة بالدعوى يجب أولا أن يكون متنازعا فيها لآن الهدف من إجراءات التحقيق هو الفصل في وقائع متنازع فيها [7] ، و عليه فإن الواقعة غير المتنازع عليها لا جدوى من التحقيق فيها كقاعدة عامة فادعاء خصم بواقعة معينة ولتكن وجود علاقة دائنية مثلا فإن اقرار الخصم الآخر بوجود هذه العلاقة و منازعته في مقدار الدين فقط، فإنه في هذه الحالة لا يجوز للقاضي أن يأمر بإجراء من إجراءات التحقيق يكون الهدف منه إثبات وجود علاقة الدائنية، و إنما له إجراء تحقيق فيما يخص مقدار الدين على اعتبار أنها واقعة متنازع فيها، و إذا كان إقرار الخصم بالواقعة مركبا لا يجوز تجزئته فمن حق الخصم الآخر أن يطلب من القاضي إثبات الواقعة عن طريق إجراءات التحقيق و للقاضي سلطة تقديرية في ذلك، فله أن يأمر بها إذا تبين له من ظاهر الحال عدم صحة ذلك الإقرار، و أما إذا كان الهدف من الإقرار هو الإضرار بشخص ثالث فإن لهذا الأخير التدخل في الدعوى بناءا على نص المادة 81 ق.إ.م. من أجل إقامة الدليل على عدم صحة الواقعة محل الإقرار.
و الواقعة محل النزاع بداهة يجب أن تكون محددة غير مجهلة حتى يتأكد القاضي من أن النزاع واقع على نفس الواقعة ، بحيث لا يقبل الإدعاء بإثبات دين معين مثلا بغير بيان مصدره الذي يستند إليه و تقدير ذلك يدخل في إطار السلطة التقديرية لقاضي الموضوع و لا رقابة عليه من المحكمة العليا متى كان تسبيبه سائغا.
الفرع الثاني: أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى:
يقصد بكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالدعوى أن تكون متصلة بالحق المدعى به اتصالا وثيقا فإذا كانت منقطعة الصلة بموضوع الدعوى فلا فائدة من إثباتها.
و تظهر أهمية هذا الشرط في الإثبات المباشر حين ينصب على الواقعة مصدر الحق كأن يثبت المؤجر عقد الإيجار لكي يطالب بالأجرة، غير أن هذا الإثبات المباشر كثيرا ما يكون متعذرا لذلك خول القانون و القضاء للمدعي في كثير من الحالات اللجوء إلى الإثبات غير المباشر، فينصب الإثبات على واقعة أو تصرف قانوني ليس مصدرا لذاك الحق وإنما من شأن إثباتها توفير دلائل يستنتج منها القاضي وجود الواقعة الأصلية أو يجعلها قريبة الاحتمال، وللقاضي سلطة تقدير ما إذا كان إثبات الواقعة يساعد على الفصل في النزاع أم لا [8].
ففي هذه الحالة الأخيرة يتعين أن تكون الواقعة المراد إثباتها متصلة بالحق المدعى به بصورة أو بأخرى، و تقدير هذا الاتصال منوط بالقاضي باعتباره من المسائل الموضوعية، و للمحكمة العليا أن تراقب قاضي الموضوع في هذا المجال عن طريق التسبيب، فإذا رفض القاضي أن يجيب طلب أحد الخصوم بإثبات واقعة يراها متصلة بالدعوى عن طريق إجراء تحقيق فعليه أن يبين في حكمه الأسباب التي دعته إلى ذلك [9].
أمثلة: إذا رفع شخص دعوى يطالب بدين فللخصم الآخر أن يثبت دفع هذا الدين أو المقاصة فيه فهاتين الواقعتين متعلقتين بموضوع الدعوى و بالتالي له أن يطلب إجراء تحقيق عن طريق سماع الشهود، أو الإطلاع على وثائق معينة تثبت ذلك، إلا أنه ليس له أن يثبت بأنه دفع الدين لشخص آخر لأن هاته الواقعة غير متعلقة بموضوع الدعوى، إلا إذا كان هذا الشخص الآخر عبارة عن وسيط مهمته إيصال مبلغ الدين إلى المدعي.
و في القانون المقارن فإن هذا الشرط نصت عليه المادة 02 من قانون الإثبات المصري : " يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوى". و المادة 132 أصول المحاكمات المدنية اللبنانية : " يجب أن يكون ما يراد إثباته مجديا في النزاع" ، وكلمة مجدي المقصود منها أن تكون الواقعة متعلقة بالنزاع منتجة فيه.
أما فيما يخص المشرع الجزائري فإنه لم ينص صراحة على كلمة "متعلقة بالدعوى" ولكنه نص على هذا الشرط بصورة غير مباشرة بنصه في المادة 61 ق.إ.م على :" لا يجوز الأمر بالتحقيق لإثبات الوقائع التي تكون بطبيعتها قابلة للإثبات بشهادة الشهود و التي يكون التحقيق فيها جائزا و منتجا في الدعوى". فعندما نص المشرع على كلمة منتجة في الدعوى يكون قد نص بصورة غير مباشرة على شرط أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى ،لأنه لا يمكن تصور أن يكون إثبات الواقعة منتجا في الدعوى دون أن تكون هاته الأخيرة متعلقة بموضوع النزاع.
المطلب الثاني: أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى و جائزة الإثبات:
من المقرر قانونا أنه لا يجوز الأمر بإجراء تحقيق في الدعوى ما لم تكن الواقعة منتجة في الدعوى و جائزة الإثبات قانونا، و قد يتصور لأول وهلة أن شرط أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى مستغرق بشرط كونها متعلقة بالدعوى، غير أن هذا لا يصدق في كل الحالات مثلما سنبينه أدناه.
و قد قسمنا هذا المطلب إلى الفرعين التاليين:
الفرع الأول: أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى.
الفرع الثاني: أن تكون الواقعة جائزة الإثبات قانونا.
الفرع الأول: أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى:
أي أنها تدخل في تكوين اقتناع القاضي ومن شأن إثباتها التأثير في الحكم الذي سيصدر [10] ، و لا يشترط أن يكون إثباتها حاسما للفصل في الدعوى، بل يكفي أن تساهم في تكوين اقتناع القاضي، و إنما يشترط أن يكون هناك نص قانوني - كأصل عام- يجعل الواقعة في حالة ثبوتها أساسا لحق من الحقوق فإدعاء شخص اكتساب ملكية عقار بالتقادم و يطلب إجراء تحقيق من أجل إثبات حيازته لذلك العقار لمدة 07 سنوات مثلا، فهذه الواقعة و إن كانت متعلقة بالدعوى إلا أنها غير منتجة فيها لأن مدة الحيازة المراد إثباتها أقل من المدة اللازمة لكسب ملكية العقار بالتقادم [11]، مع الملاحظة أنه ليس من الضروري إرشاد القاضي إلى النص لأنه مفروض فيه علمه به [12] ، كما أنه تجدر الإشارة حسب نص المادة الأولى من القانون المدني فإن للواقعة أثر قانوني حتى و إن لم يوجد نص قانوني بذلك إذا كان هذا الأثر متضمن في مبادئ الشريعة الإسلامية، فإن لم يوجد النزاع فبمقتضى العرف أو مبادئ القانون الطبيعي و قواعد العدالة، هذا فيما يخص النزاع ذو الطابع المدني ، أما إذا كان ذو طابع تجاري فإن الواقعة تعتبر منتجة في الدعوى إذا كان الأثر القانوني متضمنا بنص القانون، أو بمقتضى العرف طبقا لنص المادة الأولى مكرر من القانون التجاري.
وشرط كون الواقعة منتجة في الدعوى يتصل بشرط تعلق الواقعة بالدعوى، فكل واقعة منتجة في الدعوى تكون لا محالة متعلقة بها والعكس غير صحيح، إذ أنه ليست كل واقعة متعلقة بالدعوى بالضرورة منتجة فيها، ولذلك ذهب الفقه الراجح إلى وجوب الفصل ما بين شرطي التعلق و الإنتاج فيقوم القاضي حين عرض الواقعة عليه أولا بفحص مدى تعلقها بالدعوى فإن وصل إلى نتيجة تؤكد هذا التعلق فإنه يقبلها ثم ينتقل إلى فحص مدى إنتاجها في الدعوى، وهذا الشرط الأخير في الحقيقة لا يظهر غالبا إلا بعد المضي في إجراءات التحقيق، و عليه فإن القاضي غالبا ما يتجاوز عن مسألة البحث في الواقعة، هل هي منتجة في الدعوى أم لا ؟ إذ ليس من المؤكد أن يحصل المدعي على ما يرمى إليه من إثبات الحالة أو سماع الشهادة مثلا، و لقاضي الموضوع السلطة التقديرية في اعتبار الواقعة منتجة في الدعوى أم لا، ولا رقابة للمحكمة العليا عليه في ذلك، كما ليس للخصوم الاتفاق على اعتبار الواقعة منتجة في الدعوى وكل اتفاق على خلاف ذلك لا يلزم القاضي في شيء، و تجدر الإشارة إلى أن القاضي المكلف بقضايا الاستعجال له وضع خاص مستمد من خصوصيات القضاء الإستعجالي نفسه فشرط أن تكون الواقعة المراد إثباتها منتجة في الدعوى غير مطلوب في القضاء الإستعجالي باعتباره قضاءا وقتيا لا يمس بأصل الحق، و انطلاقا من هذه الخصوصية فإن القاضي المكلف بقضايا الاستعجال لا يمكنه الأمر بأي إجراء من إجراءات التحقيق يكون من شأنه المساس بأصل الحق [13]. كما أنه في حالة إلتماس إعادة النظر فإن التحقيق يجب أن يتوقف على النقطة المثارة فقط. [14]
الفرع الثاني: أن تكون الواقعة جائزة الإثبات قانونا:
و المقصود بهذا الشرط حسب بعض الفقه هو أن لا تكون الواقعة مستحيلة الإثبات عقلا أو قانونا و يكون ذلك في الحالات التالية:
1- إذا كانت الواقعة مستحيلة الإثبات بالنظر إلى طبيعتها و بحسب المتصور عقلا، مثل إثبات رابطة البنوة بين شخصين ذوي سن متقاربة فمثل هذه الواقعة يرفض القضاء طلب إثباتها لما تتضمنه إباحة الإثبات مع استحالتها عقلا من إضاعة وقت القضاء، ومن ثم لا يمكن التصور إطلاقا أن يلجأ القاضي إلى إجراء خبرة في هذه الحالة ، ويأمر بإجراء فحص الحمض النووي a.d.n بناءا على نص المادة 40/02 من قانون الأسرة، ولكن ليس هناك ما يمنع من إثبات أمور قد تكون من خوارق العادات إذا كان من المحتمل حدوثها، و العبرة بظروف الحال و المكان و الزمان [15] .
2- إذا منع القانون إثبات واقعة ما ، ويكون ذلك بسبب يتعلق بالنظام العام و الآداب العامة كإثبات عقد بيع المخدرات، أو منافاتها لقرينة قانونية قاطعة مثل إثبات واقعة تتعارض مع حجية الشيء المقضي فيه مع الملاحظة في هذه النقطة أن القانون الجزائري نص في المادة 338 ق.م على أن هاته القرينة ليست من النظام العام، فلا يجوز للمحكمة أن تأخذ بها تلقائيا وهذا عكس ما هو موجود في القانون المصري منذ تعديل قانون الإثبات سنة 1968 [16] وكذلك لا يجوز إثبات عكس ما هو ثابت مثلما تنص المادة 342/1 ق.م بأن الإقرار حجة قاطعة على المقر فلا يمكن اللجوء إلى إجراء من إجراءات التحقيق من أجل إثبات عكسه.
3- قد يحدد المشرع طريق إثبات الواقعة القانونية فعلى القاضي أن يتقيد به، فلا يمكنه الحكم في الواقعة المتنازع عليها إلا بمقتضى الدليل الذي أباحه القانون و استفاء الإجراءات المبينة فيه [17]، ومثال ذلك ما نصت عليه المادة 333 ق.م الجزائري على وجوب إثبات الدين المدني الذي يتجاوز 100 ألف دينار بالكتابة [18] ، فلا يمكن للقاضي اللجوء إلى التحقيق عن طريق سماع الشهود من أجل إثبات دين يفوق هذه القيمة، كما يظهر ذلك جليا أيضا من خلال قرار المحكمة العليا الصادر عن غرفة الأحوال الشخصية في 15/06/1999، الذي نقض قرار المجلس القضائي القاضي بتعيين خبير طبي قصد تحليل الدم للوصول إلى تحديد النسب، لأن المادة 40 من قانون الأسرة قبل تعديلها في 2004 حصرت طرق إثبات النسب بالزواج الصحيح و بالإقرار و بالبينة و بنكاح الشبهة، و بكل نكاح تم فسخه قبل الدخول. [19]
مع الملاحظة أن كون الواقعة مما يجوز إثباتها قانونا من عدمه هي مسألة قانونية تخضع لرقابة المحكمة العليا، وهذا بخلاف كون الواقعة متعلقة بالدعوى أو منتجة فيها فهي مسألة موضوعية.
الفصل الثاني: مظاهر سلطة القاضي المدني في إجراءات التحقيق في الدعوى:
إن دراسة النقاط المتطرق إليها في الفصل الأول قد بينت لنا مجموعة من الضوابط والقيود التي يحول عدم توافرها كليا أو جزئيا دون الحديث عن سلطة القاضي في إجراءات التحقيق في الدعوى، إذ يجب للتطرق إلى سلطة القاضي في التحقيق أن تتوافر جميع الشروط المنوه عنها في الفصل الأول بعدها تأتي مرحلة التمييز مابين السلطة التقديرية و السلطة المقيدة للقاضي في هذه الإجراءات، إذ أن سلطته تختلف باختلاف إجراءات التحقيق المذكورة في القانون، فسلطته في الخبرة مثلا ليست هي نفسها سلطته في الانتقال إلى المعاينة، وقد راعى المشرع هذا الاختلاف حسب طبيعة وأهمية إجراء التحقيق والفائدة المرجوة منه ،وحتى تكتمل دراستنا لهذه المذكرة على أحسن وجه يجب علينا التطرق إلى سلطة القاضي في الأمر بإجراء التحقيق من عدمه، وهل هذه السلطة متوقفة على شرط أم أنها نابعة من تلقاء نفسه كما يجب التطرق إلى سلطته أو مدى إمكانية التراجع عن الأمر بإجراء التحقيق بعد اتخاذه، ومدى التزامه بالدليل الذي ينتج عن إجراء التحقيق.
من أجل ذلك قسمنا هذا الفصل إلى المبحثين التاليين:
المبحث الأول: سلطة القاضي المدني في الأمر بإجراء التحقيق في الدعوى.
المبحث الثاني: سلطة القاضي المدني في العدول عن الأمر بإجراء التحقيق و تقدير الدليل الناتج عنه.
المبحث الأول: سلطة القاضي المدني في الأمر بإجراء التحقيق في الدعوى:
إن التساؤل الذي يطرح بعد أن يتأكد القاضي من توافر جميع المبادئ العامة التي تضبط سلطته من كون أن الواقعة متعلقة بالدعوى متنازع فيها، منتجة وجائز إثباتها، وأن الإجراء الذي قد يتخذ للتحقيق لا يخرق أي مبدأ من مبادىء حياد القاضي ومختلف الضوابط الأخرى، هل له أن يأمر من تلقاء نفسه باتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق وهل له سلطة عدم الأمر بذلك في مطلق الأحوال؟ .
إن الإجابة على هذا التساؤل يحتم علينا التطرق إلى المطلبين التاليين:
المطلب الأول: سلطة القاضي المدني في الأمر بإجراء الخبرة، مضاهاة الخطوط، و دعوى التزوير الفرعية.
المطلب الثاني: سلطة القاضي المدني في الأمر بإجراء الشهادة، اليمين، و الإنتقال للمعاينة.
المطلب الأول: سلطة القاضي المدني في الأمر بإجراء الخبرة، مضاهاة الخطوط، و دعوى التزوير الفرعية:
إن أول شيئ على القاضي التحقق منه هو مدى سلطته في الأمر بإجراء التحقيق من عدمه، و مختلف الإجراءات التي يجب مراعاتها، إذ أن هذه السلطة تختلف من إجراء لآخر، و للتفصيل أكثر قسمنا هذا المطلب إلى الفروع التالية:
الفرع الأول: الخبرة.
الفرع الثاني: مضاهاة الخطوط.
الفرع الثالث: دعوى التزوير الفرعية.
الفرع الأول الخبرة:
تنص المادة 48 من ق.إ.م: " يعين القاضي الخبير إما من تلقاء نفسه أو بناءا على اتفاق الخصوم " يتضح من خلال هذه المادة صراحة أن للقاضي سلطة في الأمر بإجراء خبرة من تلقاء نفسه أي أن سلطته تقديرية، كما يتضح أنه ملزم بإجراء تحقيق عن طريق الخبرة في حالة اتفاق الخصوم على ذلك
غير أنه توجد عدة نصوص قانونية أخرى تجعل من هذه السلطة مقيدة تارة و مطلقة تارة أخرى، كما أن القضاء استقر في حالات أخرى على تحديد هذه السلطة مثلما سنبينه أدناه. مع العلم بوجود إستثناءات خاصة في دعاوى المحاسبة نصت عليها المواد: 310 إلى 319 من ق.إ.م.
أولا : الحالات التي نص عليها القانون : نص القانون على عدة حالات من بينها:
- إذا اتفق الأطراف على إجرائها، طبقا لنص المادة 48 المذكورة أعلاه فإنه يجب على القاضي أن يأمر بها وليس له الاعتراض على اتفاق الخصوم إلا إذا كانت هذه الرغبة ليست لها مبرر أو دعم، وأن ما ورد في ملف الدعوى من أوراق وإثباتات يكفي لتكوين اقتناعه للفصل فيها بكل دقة وموضوعية، وهو ما نصت عليه صراحة المادة 136/01.02 من قانون الإثبات المصري.
فلا يصح للمحكمة أن تمتنع عن التصديق على هذا الإتفاق حتى و لو لم يكن الخبير المتفق عليه خبيرا في الأمر الموكول إليه.
- ما نصت عليه المادة 358 من القانون المدني والمتعلقة ببيع العقار بغبن يزيد عن الخمس فللبائع الحق في طلب تكملة الثمن إلى أربعة أخماس ثمن المثل، ويجب لتقدير ما اذا كان الغبن يزيد عن الخمس أن يقوم العقار بحسب قيمته وقت البيع، وانطلاقا من أن تقييم العقار مسألة فنية تحتاج الى خبرة أهل الاختصاص فإن القاضي ملزم لتقدير ما إذا كان النقص يزيد عن الخمس أن يقوم بتعيين خبير لذلك.
- ما نصت عليه المادة 194 ق التجاري،إذ تنص في فقرتها الثانية على:" غير أنه إذا طالب المستأجر بتعويض الإخلاء، جاز للطرف الذي يهمه التعجيل أن يتم دعواه أمام رئيس المحكمة الناظرة في القضايا المستعجلة ليأمر بإجراءات الخبرة اللازمة و ذلك قبل إنتهاء الأجل المنصوص عليه في الفقرة السابقة".
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma