للإثبات القضائي أهمية بالغة في الحياة العملية ، إذ أن كل ادعاء أمام المحكمة يكون واجب الإثبات ، ولا قيمة للحق المدعى به مالم يقم الدليل على الحادث المنتج له قانونيا كان هذا الحـادث أو ماديا .
لذلك فان التشريعات اهتمت بالإثبات ونظمته وحددت الوسائل التي يقوم عليها الدليل أمام القضاء وهي عادة ما تكون من صنع المتقاضـين أنفسهم يعدونها مسبقا. يلجئون إليها لاثبات التصرفات التي تكون مصدر حقهم المباشر إذا ما ثار حولها النزاع وهذا ما يعرف بالإثبات المباشر الذي يتم بالكتابة وشهادة الشهود .
غير أن هذه الوسائل لا تكفي وحدها من الناحية العملية لتغطية جميع حالات الإثبات خاصة عند استحالة تقديمها ، إما لعدم إعدادها أصلا من طرف الخصوم ، و إما لتعلق النزاع بواقعة مادية لايمكن إقامة دليلها مسبقا . لذلك ومن أجل تجنب المتقاضين مشقة الإثـبات المباشر عند عـدم توفـر وسائله ، فان المشرع لجأ إلى تهذيب عملية الإثبات ، فحول الإثبات من المباشر إلى الإثبات غير المباشر الذي يقوم على تحويل محل الإثبات إلى واقعة أخرى قريبة ليست محل نزاع ليستخلص منها ثبوت الواقعة الأصلية محل النزاع معتمدا في ذلك على عنصر الاستنباط وعلى عنصر الترجيح .
ولأن القرينة القانونية هي أهم وسائل الإثبات غير المباشر كون المشرع يعتمد عليها لتحقيق مصلحتـين ، مصلحة قضائية إذ تسمح بإقامة الدليل أمام القضاء ، ومصلحة اجتماعية هي المحافظة على حقوق الأفراد من الضياع .
وانطلاقا من هاتين النتيجتين ، ونظرا لما تمثله القرينة القانونية باعتبار أنها دليل للإثبات من خصوصية وتمييز عن غيرها من أدلة الإثبات الأخرى من حيث مصدرها وطبيعة عملها في الإثبات وقوة حجيتها الثبوتية ، وهذه المسائل جميعها جعلتها محور دراستي في هذا البحث .
من هذا فان دراستنا للقرينة القانونية تتمحور حول الإشكالية التالية : ماهية القرينة القانونية وطبيعتها ، وكيفية عملها في مجال الإثبات باعتبارها وسيلة من وسائله ؟ . وللإجـابة على هذا التسـاؤل قسمـنا بحـثنا إلى ثلاثة فصـول .
الفصل الأول
ماهية القرينة القانونية وطبيعتها
يعتبر هذا الفصل بمثابة الفصل التمهيدي ، درست من خلاله الجانب التاريخي و الجانب النظري و الفلسفي للقرينة القانونية ، إذ تضمن استعراض المراحل التي مرت بها القرينة القانونية في تطورها عبر مختلف الشرائع منذ نشأتها إلى أن أصبحت نظرية قائمة بذاتها في التشريعات المعاصرة . كما تضمن تعريف القرينة القانونية مع تبيان عناصرها ، ولأن دور القرينة القانونية في الإثبات ينطوي على طبيعة خاصة ، اقتضى منا الأمر تبيان هذه الطبـيعة مـع تحـديد خصائصها وأهداف تشريعها .
ونظرا لتفاوت قوة الحجية في الإثبات بالقرائن القانونية ، فإنني عمدت إلى تقسيمها حسب درجة الحجية إلى نوعين . ولأن القرينة القانونية من حيث أنها دليل للإثبات ذات طبيعة خاصة تتقاطع مع أدلة إثبات أخرى في نقاط تشابه واختلاف عملت على بيانها . ولمعالجة جميع المسائل المثارة ، اقتضى مني الأمر تقسيم هذا الفصل إلى خمسة مباحث كمايلي .
المبحث الأول : تضـمن هذا المبحث دراسة المراحـل التي مـرت بها القريـنة ، وتطور استعمالها كوسيلة إثبات في مختلف الأنظمة القانونية التي عرفت في القرون الوسطى و ما قبلها إلى غاية ظهور القانون المدني الفرنسي ، ولذلك فلم يساعد النظام القبلي الذي قامت عليه البشرية فيبداية عهدها في ظـهور نظام قانـوني و قضائي واضح المعالم يتيح من خلاله إجراء المحاكمات لطغيان على هذه الكـيانات فكرة الانتقام . أما في العهد الروماني الذي اشتهر بإنشاء منظومة قانونية و نظـم القضاء ، بأن فوض أمر فض النزاعات إلى شخص طبيعي وأعطى للخصوم حرية إثبات حقوقهم بجميع الوسائل التي كان من أشهرها القرائن القضائية ، والتي أخذ القيصر فيما بعد بعض هذه القرائن القضائية ، ووضعها في نصوص قانونية ، فعرفت بذلك القرينة القانونية أول نشأة لها في القانون الروماني بتحويل القرينة القضائية إلى قرينة قانونية .
كما أن الشريعة الإسلامية أقرت بالقرينة كوسيلة إثبات رغم اختلاف فقهاء الشـريعة في أمر اعتمادها كوسيلة إثبات قائمة بذاتها .
المبحث الثاني : تناولت في هذا المبحث تعريف القرينة القانونية مع تبيان عناصرها فبالنسبة لتعريف القرينة القانونية ، فقد تناولته من أوجه ثلاثة هي . التعريف اللغوي للقرينة ، ثم التعريف الاصطلاحي من خلال استعراض مجموعة من التعاريف التي جاء بها الفقهاء عند تعريفهم للقرينة القانونية ، كما تناولت تعريف التشريع للقرينة القانونية ، وذلك من خلال استعراض التعاريف التي وضعتها التشريعات القانونية خاصة منها القانون المـدني الفرنـسي ، والقانـون المـدني اللبناني والمصري ، و ما جاء به المشرع الجزائري . كما تناولت العناصر التي تقوم عليها القرينة القانونية وهما عنصر الغالب الوقوع و عنصر القرار .
المبحث الثالث : وتناولت فيه دراسة الطبيعة القانونية لعمل القرينة القانونية في الإثبات ولقد جاء هذا المبحث كنتيجة طبيعية للجدل الفقهي و الاختلاف الذي ثار بين الفقهاء حول تكييف دور القرينة القانونية في عملية الإثبات ، حيث انقسم الفقه في هذه المسألة إلى أراء مختلفة (ثلاث اتجاهات ) . الاتجاه الأول يرى أن القرينة القانونية هي وسيلة إعفاء من الإثبات وليست دليلا من أدلته . أما الاتجاه الثاني فيرى أن القرينة القانونية هي قاعدة من قواعد الإثبات . بينما يذهب الاتجاه الثالث إلى القول أن القرينة القانونية هي دليل ن أدلة الإثبات غير المباشرة ، ولقد ناقشت هذه الآراء وبينت الرأي الراجح في الفقه .
المبحث الرابع : ويتضمن دراسة الخصائص التي تتميز بها القرينة القانونية عن غيرها من أدلة الإثبات الأخرى ، وكذلك البحث في حكمة تشريعها .
أما فيما يتعلق بالخصائص ، فتتمثل في أربعة وهي . أولا أن القرينة القانونية من صنع المشرع وأساسها الـنص القانـوني ، والثانـية أنها تمتاز بخاصية التجريد والتعميم ، أما الثالثة فهي خاصية الإلزام ، بينما الرابعة فهي خاصية الاستثنائية .
أما حكمة تشريع القرينة القانونية فتتمثل في المصلحة التي أراد المشرع تحقيقها من وراء كل قرينة قانونية ، فقد يهدف المـشرع من وراء تقريره للقرينة المـحافظة على المصلـحة العامة أو يهدف إلى ترسـيخ ما جرى به العمل بين الناس من عادة وعرف أو تسهـيل عملـية الإثبات أو يهدف إلى حماية القانون من الاحتيال على نصوصه .
المبحث الخامس : درست من خلاله تقسيم القرائن القانونية . كما ميزت بينها وبين النظم القانونية الأخرى القريبة منها .
أما فيما يتعلق بأقسام القرينة القانونية فاني اعتمدت على التقسيم العام الذي يقوم عليه التمييز بين نوعين من القرائن القانونية ، وذلك بحسب قوة حجية الإثبات ، إذ هناك القرائن القانونية القاطعة كقسم أول ، أما القسم الثاني يسمى القرائن القانونية البسيطة ، وهذا هو التقسيم الذي أقره المشرع بموجب النص القانوني .
أما فيما يخص التمييز بين القرائن القانونية و النظم الأخرى المشابهة لها ، فانني بحثت في أوجه التشابه و الاختلاف من خلال مقارنة أجريتها أولا بين القرينة القانونية كدليل من أدلة الإثبات غير المباشرة من جهة ، وبين الإثبات المباشر المتمثل في الكـتابة و الشهادة من جـهة أخرى . ثم ثانيا مقارنة بين القرائن القانونية و القرينة القضائية . أما ثالثا فانه نظرا للتداخل الحاصل بين القرينة القانونية و القاعدة الموضوعية ، الذي يؤدي في الكثير من الأحيان إلى الخلط بين النصوص القانونية المقررة للقرائن القانونية التي تعمل في مجال الإثبات وبين النصوص المقررة للقواعد الموضوعية التي تتعلق بتنظيم المراكز القانونية للأفراد و تحديد الحقوق ، ووصلت إلى تحديد ثلاثة معايير يمكننا الاعتماد عليها لإجراء التمييز بين القرائن القانونية من جهة و القواعد الموضوعية من جهة أخرى .
الفصل الثاني
الإثبات بالقرينة القانونية القاطعة
خصصت هذا الفصل لدراسة القرينة القانونية القاطعة ، إذ تناولت في المبحث الأول كيفية الإثبات بالقرينة القانونية القاطعة ، ولأن القرينة القاطعة تمتاز بكون المشرع جعل حجيتها قاطعة في الإثبات ومنع عنها قبول أي دليل لنقضها ، لذلك فاني انطلقت في دراستي هنا ببحث الخاصية الاستثنائية التي تمثله القرينة القاطعة في الإثبات في مقابل الإثبات بالقرينة غير القاطعة . وتبعا لهذه الاستثنائية التي تمثلها القرينة القاطعة يجعل تحديدها الدقيق ضروري من طرف المشرع بالنـص القانوني الذي يقررها ، لذلك وجب علينا تحديد المعايير التي اعتمدها المشرع لتمييز القرينة القاطعة عن غيرها من القرائن القانونية . ثم ننتقل بعد ذلك إلى مـناقشة نقطة أخرى أثارها الفقهاء ترتبط ارتباطا و ثيقا بفكرة الاستثنائية التي تقوم عليها القرينة القاطعة من حيث عدم قبولها الإثبات بالعكس وهذه النقطة هي مدى ارتباط القرينة القاطعة بفكرة الإثبات وعلاقتها بالنظام العام . وبعد تأكيدنا للنتيجة توصلنا إلى أن القرينة القاطعة باعتبارها دليل للإثبات مثل القرينة البسيطة تخضع للمبدأ العام الذي يقوم عليه الإثبات وهو مقارعة الدليل بالدليل . ومن ثم فاني بحثت في كيفية حدوث إثبات عكس
القرينة القاطعة وتبيان وسائله . وختاما لهذا الفصل ومن أجل تحقيق التكامل بين الجانب النظري في دراسة القرينة القاطعة فاني قمت بدراسة تطبيقية لبعض وأهم القرائن القاطعة معتمدا في ذلك على الأحكام و القرارات و الآراء الفقهية .
ولقد تناولت هذه النقاط في أربعة مباحث هي :
المبحث الأول : طابع الاستثناء للقرينة القاطعة ومعايير تمييزها . ويتمثل طابع الاستثناء في القرينة القاطعة في كون المشرع استثناها من القاعدة العامة التي قررها في القرائن القانونية الأخرى حيث جعل الأصل في قرائن الإثبات القانونية أنها قابلة لاثبات العكس باعتبار أن المشرع لا يقيمها على أسـاس القطع واليقين وانما على أساس الافتراض و الترجيح ، بينما في القرينة القاطعة فان المشرع قـدر أن احتمال عدم مطابقتها للواقع هو احتمال ضعيف لا يعبء به لأجل تحقيق الغاية التي أرادها ولو أدى ذلك إلى حرمان المتقاضي من حق إثبات العكس ، وانطلاقا من المبدأ القائل بـأن لا استثناء إلا بنص ، واعتبارا من أن القريـنة القاطعة مقررة بموجب نصوص قانونية منتشرة فـي كامل فروع القانون مثلها مثل القرينة البسيطة يصعب تحديدها ، إذا لم يضع لها المشرع معيار يميزها به ولهذا فقد بحثت في المعيار الذي اعتمده المشرع من خلال النص القانوني المقرر للقرينة القاطعة في كل من القانون المدني الفرنسي و القانون المدني الجزائري و القانون المدني المصري .
المبحث الثاني : ارتباط القرينة القاطـعة بفكرة الإثبات وعلاقـتها بالنـظام العام ، ويقوم الشطر الأول من عنوان هذا المبحث بمناقشة مدى ارتباط القرينة القاطعة بفكرة الإثبات انطلاقا من التشكيك الذي أثاره بعض الفقهاء حول هذه النقطة على أساس أن عدم قبول القرينة القاطعة لاثبات العكس يجعلها أكثر قرابة من القواعد الموضوعية الآمرة منه إلى قرائن الإثبات.أما الشطر الثاني فيتعلق بدراسة و مناقشة مدى إمكانية أو حقيقة قيام العلاقة بين القرينة القاطعة و النظام العام ، وهي فكرة طرحها جانب من الفقه حيث يرى أن القرينة القاطعة تنقسم من حيث قـوة حجـيتها في الإثبات إلى نوعين تبعا للمصلحة المراد حمايتها . فيرى الفقه أن القرينة التي وضعت لحماية المصلحة الخاصة بالأفراد هي التي تقبل الإثبات بالعكس،أما القرينة التي تحمي المصلـحة العامة فلا تقبل الإثـبات العكـسي لأنها ترتبط بالنظام العام .
الفصل الثالث
الإثبات بالقرينة غير القاطعة
تناولت في هذا الفصل الإثبات بالقرينة القانونية غير القاطعة . وقد بدأت أولا وقبل الغوص في دراسة أحكام الإثبات بالقرينة بتبيان التفاوت الموجود داخل هذا النوع ، فاذا كانت القرائن غير القاطعة تتساوى من حيث المبدأ أن جميعها قابلة لاثبات العكس،إلا أنها تختلف فيما بينها وتتفاوت في قوة حجيتها في الإثبات ، وكذلك من حيث نوع الوسائل التي تقبل بها إثبات العكس ، بالإضافة إلى اختلاف الغاية التي التي يهدف إليها المشرع من وراء تقريره لكل قرينة غير قاطعة .
ونتيجة لهذا التمايز فان الفـقه يقسم القريـنة غير القاطـعة إلى نوعين ، القرائن البسيطة والقرائن النسبية .
ويترتب عن الإثبات بالقرينة غير القاطعة نتائج تؤثر مباشرة على قواعد الإثبات حيث اختلف رأي الفقه بشأنها إلى اتجاهين . الاتجاه الأول يرى أن الإثبات بالقرينة غير القاطعة يؤثر على عبء الإثبات . أما الرأي الثاني فيرى أن القرينة تؤثر على محل الإثبات ، والقرينة غير قاطعة بحكم أنها تقوم على احتمال ضعيف ، فان المشرع سمح للمتقاضي الذي يحتج بها ضده بإثبات عكسها بجميع وسائل الإثبات فيما يخص إثبات عكس القرينة البسيطة وبوسائل محددة بالنسبة للقرائن النسبية وان كان للقاضي سلطة تقديرية محدودة فيما يتعلق بالإثبات بالقرينة القانونية ،وهـي في الغالب سلطة سلبية إلا أنه هناك حالات تتعلق بالقرينة غير القاطعة يلعب فيها القاضي دورا إيجابيا تحت رقابة المحكمة العليا .
ولقد تضمن هذا الفصل أربعة مباحث هي .
المبحث الأول : حجية القرائن غير القاطعة ومجال عملها .إن القرائن غير القاطعة ليست جميعها في نفس درجة الحجية في الإثبات ،لذلك فقد درج الفقه إلى التمييز بين نوعين من القرائن غير القاطعة ، نوع يقوم على حجية بسيطة يقبل الإثبات بالعكس بجميع وسائل الإثبات ، ويطلق على هذا النوع باسم القرائن البسيطة . أما النوع الثاني فيكون الإثبات بالعكس فيه مقيد من حيث وسائل الإثبات المقبولة للإثبات وكذلك من حيث تحديد المحل أو الموضوع المراد إثباته .كما أن مجال عمل القرينة غير القاطعة يختلف بحسب الغاية التي يهدف المشرع إلى تحقيقها ، فهناك قرائن تعمل في مجال إثبات المسؤولية أو ركن من أركانها ، وهناك قرائن يقرر فيها المشرع صحة الوضع القائم الظاهر إلى أن يثبت العكس .
المبحث الثاني : آثار الإثبات بالقرينة غير القاطعة على قواعد الإثبات .
تمتاز القرينة غير القاطعة بأنها من صنع المشرع يستقل في تقدير نتيجتها ويلزم القاضي الأخذ بها دون أن تكون له أية سلطة تقديرية بكونها مقررة بنص قانوني ،وهذه الميزة تجعل الإثبات بالقرينة القانونية غير القاطعة يختلف عن ما هو عليه الحال في الإثبات بالوسائل الأخرى ، ذلك لأنه يؤثر مباشرة على قواعد الإثبات . فلقد اختلف الفقه في تحديد طبيعتها ومستواها وانقسم إلى رأيين هما .
رأي يرى أن الإثبات بالقرينة غير القاطعة تؤثر في قاعدة عبء الإثبات ويقوم مقام الاستثناء من القاعدة لأنه يعفى من عبء إثبات الواقعة المطروحة .
أما الرأي الثاني فيذهب عكس الرأي الأول إذ لا يرى أي تأثير للقرينة على عبء الإثبات وانما تأثيرها الوحيد يكون على مستوى محل الإثبات فقط لأنها تحول الإثبات من الواقعة الأصلية المتنازع عليها إلى واقعة أخرى قريبة منها .
المبحث الثالث : إثبات عكس القرينة غير القاطعة . القرينة غير القاطعة باعتبار أنها تقوم على حجية بسيطة كونها تقوم على أساس الاحتمال الضعيف ،لذلك فان المشرع أجاز إثبات العكس فيها إلا أن هذا الإثبات هو ذو طبيعة خاصة ، ذلك أن المعروف أنه إذا تم إثبات العكس في وسائل الإثبات الأخرى فانه يؤدي إلى استبعاد تلك الوسيلة نهائيا ، غير أن إثبات عكس القرينة غير القاطعة هو من نوع خاص لأنه يتعلق باستبعاد تطبيق القرينة على وقائع النزاع المطروح فقط ولا يتعداه إلى إلغاء القرينة كليا ، بحكم أنها مقررة بنص قانوني لا يجوز إلغائه ، هذا ما يجعل إثبات عكس القرينة غير القاطعة ذو طبيعة خاصة سواء من حيث محل إثبات العكس و الوسائل المستعملة في ذلك أو من حيث حرية القاضي في استعمال سلطته التقديرية .
المبحث الرابع : تطبيقات عملية لبعض القرائن غير القاطعة . يتضمن هذا المبحث تطبيقات عملية لبعض القرائن غير القاطعة التي أوليت لها الأهمية بالنظر لأهمية المواضيع التي تتعلق بها وكثرة النزاعات القضائية بشأنها ، فقمت بشرح كل قرينة و تحليلها معتمدا على الآراء الفقهية وعلى الأحكام القضائية خاصة القرارات الصادرة عن المحكمة العليا . وهذه القرائن هي قرينة الخطأ في مسؤولية متولي الرقابة ، وقرينة الخطأ في مسؤولية مالك البناء ، وقرينة العلاقة السببية ، وقرينة التبرع في تصرفات مريض مرض الموت ، وقرينة وجود السبب ومشروعيته
الخـاتـمة
بعد إنهاء دراستنا لقرائن الإثبات القانونية بنوعيها البسيطة والقاطعة حيث بينا أحكام وقواعدها في الإثبات ، نكون قد وصلنا إلى نهاية بحثنا وبقي أن نجمل أهم النتائج التي تضمنها هذا البحث والتي تم الكشف عنها في ثناياه ، وهي تتمثل في النقاط التالية :
-1 أن قرينة الإثبات القانونية هي من صنع المشرع ولا دخل للخصوم فيها ، الذي يقيمها على فكرة الاحتمال و الترجيح ويجعل نتيجته عامة ومجردة بموجب نص قانوني يلزم به القاضي تطبيق القرينة كلما توفرت شروطها بغض النظر لخصوصية النزاع وظروفه .
-2 أن قرينة الإثبات القانونية بالرغم من أنها تختلف على وسائل الإثبات الأخرى من حيث أنها آلية قانونية لا دخل للخصوم في صنعها ، إلا أنها تشترك معها من حيث أن كلاهما لا يقيم إلا الحقيقة الظاهرة للواقع دون الحقيقة الباطنة التي قد تكون مخالفة للحقيقة الواقعة .
-3 أن قرينة الإثبات القانونية تتشابه مع القواعد الموضوعية من حيث أن مصدرها النص القانوني وعنصرهماهوالغالب الوقوع،غيرأنهما يختلفان من حيث المصلحة المراد تحقيقها في كل منهما،فالمصلحة من القاعدة الموضوعية هي تنظيم المراكز القانونية للأشخاص،أماالمصلحة في القرائن القانونية هي إثبات المراكزالقانونية التي أقامها المشرع بموجب القاعـدة القانونـية ومن ثمة فالغاية في القاعدة الموضوعيةهي تنظيم وحماية حقوق الأفراد وهي غاية تشريعيةأما القرينة القانونية فدورها إثبات الحقوق أمام القضاء من أجل إقامة العدالة،ومن ثمة فالغاية منها هي غاية قضائية .
-4 أن الفقه اختلف في تكييف دور القرينة القانونية في الإثبات وأنقسم في ذلك إلى ثلاثة أراء
الرأي الأول : يرى أن القرينة القانونية تؤثر على عبء الإثبات إذ هي تعفي من الإثبات إعفاءا كليا بالنسبة للقرينة القاطعة وإعفاءا جزئيا بالنسبة للقرينة البسيطة ، أما الرأي الثاني فانه يعتبر القرينة قاعدة من قواعد الإثبات ، بينما يرى الرأي الثالث أن القرينة القانونية هي دليل من أدلة الإثبات قائما بذاته وهي دليل غير مباشر تقوم على تحويل الإثبات من محل إلى أخر تيسيرا له،وهذا الرأي رجحناه على أساس أن القرينة القانونية مثلها مثل عمل القرينة القضائية في الإثبات،فهي إن كانت تعفي من إثبات الواقعة الأصلية مـحل النزاع فإنها لا تعفي المدعي بها من عبء إثبات البديلة التي حول إليها الإثبات .
-5 أن المشرع لم ينظم الأحكام الإجرائية الواجب إتباعها عند الإثبات بالقرينة القانونية واكتف بتبيان أحكامها الموضوعية وقوة حجيتها في الإثبات في القانون المدني ، ذلك من خلال الفصل الثالث من الباب السادس تحت عنوان إثبات الالتزام ، حيث خصها بثلاثة مواد من المادة 337 إلى المادة 339 مدني جزائري .
-6 أن مجال الإثبات بالقرينة القانونية هو مجال مطلق غير محدد ، فكما يمكن استعمالها في إثبات الوقائع المادية يمكن كذلك استعمالها في إثبات التصرفات القانونية مهما كانت قيمتها حتى ولو تجاوزت 1000 دج ، أو كانت غير محددة القيمة ، وكل ذلك خاضع لإرادة المشرع .
-7 أن الإثبات بالقرينة القانونية يعزز الثقة لدى المتقاضين في عدالة القضاء ويحافظ على استقرار الأحكام وتماثلها ، لأن المشرع يفرضها على القاضي متى تحققت شروطها دون أن تكون له عليها أية سلطة لتقدير ثبوتها ،وهذا عكس ما هو جاري في القرينة القضائية التي تخضع لكامل سلطة القاضي التقديرية في تقدير ثبوتها من عدمه وحريته في الأخذ بها أو تركها .
-8 أن القرائن القانونية لا تتمتع جميعها بنفس الحجية في الإثبات ، ومن هذه الناحية فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
- قرائن قانونية بسيطة وهي التي تقبل الإثبات بالعكس مطلقا وبجميع الوسائل .
- قرائن قاطعة الدلالة لا تقبل الإثبات العكسي إلا بالإقرار و اليمين .
- قرائن قانونية بسيطة وهي وسيطة بين القرينة القاطعة والقرينة البسيطة ، فهي تقترب من القرينة البسيطة كونها تقبل إثبات العكس ، وتميل إلى القرينة القاطعة من حيث أنه لايمكن إثبات العكس فيها الا بوسائل محددة وبإثبات وقائع معينة مسبقا .
-9 أن القرينة القانونية وإن كانت في الأصل مقررة لتسهيل عمليات الإثبات لفائدة خصم دون أخر وحماية حقوق الطرف الضعيف في الإثبات ، إلا أن هناك حالات يصح فيها إعمال القرينة لمصلحة كلى الخصمين حيث تكون القرينة آلية لتوزيع المسؤولية بين المدعي والمدعى عليه ، ومثل هذه القرائن نجده في تطبيق مسؤولية حارس الشيء على سائقي السيارات في مجال حوادث المرور ، إذ يستطيع كل منهم التمسك بقرينة الخطأ المفترض ضد خصمه .
-10 لم يضع المشرع الجزائري معيارا خاصا بالقرينة القاطعة كما أنه لم يلتزم بالخطة التي رسمها في نص المادة 337 مدني ،التي قرر من خلالها القاعدة في القرائن القانونية وهي أنها قابلة لإثبات العكس الا ما استثني بنص ، ولأن القرينة القاطعة هي استثناء لا يتقرر إلا بنص صريح ، فان المشرع الجزائري لم يلتزم بالنص مع كل قرينة قاطعة بأنها غير قابلة لإثبات العكس ، وهذا ما يفتح الباب واسعا للاجتهاد الفقهي والقضائي من أجل استخلاص النصوص التي تقرر قرائن قاطعة ، وهو ما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى اختلاف النتائج المتوصل إليها وتناقضها ،بالنظر إلى اختلاف نظرة كل فقيه وكل قاضي عند تقديره للقرينة القاطعة ويجعل بعض القواعد الموضوعية تصنف على أنها قرائن قاطعة ، لذلك فإننا نرى ضرورة أن يعمد المشرع الجزائري على النص صراحة مع كل قرينة يريد أن يجعلها قاطعة بأنها غير قابلة لإثبات العكس .
-11 أن القرينة القانونية باعتبارها دليل من أدلة الإثبات فهي لا تخرج عن القاعدة العامة المقررة في الأدلة الأخرى من حيث خضوعها لمبدأ الإثبات بالعكس ، لذلك فان الفقه الحديث يرى أن جميع القرائن القانونية قابلة لإثبات العكس بما فيها القرائن القاطعة ولو اقتصر إثبات عكسها على الإقرار واليمين ، وهذا ما دفع جانب من الفقه إلى اعتبار أن القرائن القانونية لا تنطوي في حقيقتها الا على نوع واحد هو القرائن بسيطة الحجية .
-12 رأينا أن الفقه في غالبيته يرى أن الأمر في الأحكام الحائزة لحجية الشيء يتعلق بتطبيق مبدأ قضائي يقوم على ضـرورة احترام ما انتهى إليه الحكم القضائي فصلا في النزاع ومنع معاودة طرحه من جديد ، كما رأينا كذلك أن المسألة خلافية في الفقه الجزائري بين من يقول بأن حجية الأحكام هي قرينة قانونية قاطعة وبين من يرى أنها قاعدة موضوعية بنيت على قرينة ، وهذا الرأي هو الذي رجحناه على أساس أن قرينة الإثبات القانونية تـهدف إلى إيجاد دليل يساعد على حل نزاع مطروح مازال لم يفصل فيه بعد ، بينما الحكم الذي حاز قوة الشيء المقضي فيه هو النتيجة الحاسمة لنزاع فصل فيه وانتهى أمره
13- أن إثبات عكس القرينة القانونية لا يعني بأي حال من الأحوال إلغاء القرينة في عمومها ، وانما يقتصر على إبطال حجية القرينة في حالة خاصة تتعلق بظروف النزاع القائم فقط . لأن القرينة القانونية مقررة بموجب نص تشريعي لا يجوز إلغاءه الا بنص تشريعي أخر يماثله .
بهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية هذا البحث بتوفيق من الله سبحانه وتعالى
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma