محاضرات في مقياس المؤسسات والعلاقات الدولية لطلبة السنة أولى حقوق ل م د .
مقدمة
الجذور التاريخية والفكرية التي سبقت نشأة القانون الدولي
العلاقات الدولية ثمرة مساع مشتركة قامت بها الشعوب قديماً
قانون الشعوب ارتضته الدول لتنظيم العلاقة فيما بينها في السلم والحرب
ثلاثة قرون هي عمر نشأة القانون الدولي إثر المنازعات الأوروبية
● العلاقات الدولية هي ثمرة مساع مشتركة قامت بها الشعوب قديما وفرضتها عليها المنازعات والمصالح التجارية، ومنها انبثق ما يسمى بالقانون الدولي ومن ثم تفرع إلى قانون دولي عام وخاص بمفهومه الواسع حديثا.
وكما تسرد الدراسة التالية أن نشأة القانون الدولي تمتد تاريخيا فقط من ثلاثة قرون وبالطبع سبقته العلاقات الدولية بين الدول بعضها ببعض.. الأمر الذي يؤكد فطرة الله التي خلق الناس عليها وهي حاجتهم لبعضهم البعض مهما تعددت مصالحهم واختلفت مشاربهم وتناقضت أهواؤهم.. إلا أن الفطرة البشرية هي الغالبة عليهم ولهذا لابد من تنظيم هذه العلاقة. والدراسة التالية تحكى قصة نشأة العلاقات الدولية ومن ثم القانون الدولي..
عندما خلق الله تعالى الإنسان جعل فيه نوعا من النزوع إلى الحياة مع الآخرين والالتقاء بهم، إذ أنه لا يستطيع أن يعيش منعزلا بمفرده عن بني جنسه، يستوي في ذلك الأفراد والجماعات والدول. ومن هنا نشأت العلاقات بين الأمم البشرية، بل وحتى بين الأمم غير البشرية، حيث قال سبحانه وتعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) الأنعام 38.
وقد جعل الله تعالى الناس شعوبا وقبائل وميَّز بينهم ليكون هذا التمايز سببا للتعارف والتعاون، فقال: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) الحجرات 13.
ومن هنا كان للأمم في علاقاتها مع غيرها قواعد مرعية ومبادئ تعارفت عليها منذ العصور الغابرة، وعليها أقامت أساس العلاقات في حالي السلم والحرب حتى قال مونتسكيو: «ما من أمة إلا ولها في حقوق الدول نظام، حتى قبائل إركوا ـ في أمريكا الشمالية ـ الذين يأكلون أسراهم لهم نظام من هذا القبيل! فإنهم يرسلون رسلهم ويستقبلون رسل غيرهم، ويعرفون أحكام السلم والحرب. ولكن من سوء أمرهم أن نظام حقوقهم غير مبني على الصحيح من الأصول».
وقال بعض الكاتبين: « إن مجرد تعايش الشعوب جنبا إلى جنب يخلق في نفوسها شعورا بالواجب الخلقي والشرعي يتبلور ويستحيل على مرِّ الزمن إلى نظام من القانون الدولي».
فالعلاقات الدولية والقانون الدولي ثمرة المساعي المشتركة التي تقوم بها الشعوب وتتعاقب عليها الأجيال. ويكفي أن توجد جماعتان حتى تشتبك بينهما المصالح، وتضطرهما إلى التعامل والتعاقد قواعد وتقرير قواعد الحرب والسَّلم، فلذلك ترى الأوضاع الدولية ـ على رغم ما فيها من ضعف ظاهر ـ قليلة التحول، كثيرة التشابه، ولابد لكل جماعة ذات كيان أن تحرص على توثيق عُرى الصلات بمجاوريها، وأن تحافظ بقدر ما تستطيع في صلاتها على المبادئ الشريفة والقواعد العادلة، التي يحترمها ـ في الغالب ـ أهل العصر، ويوحي بها الوجدان والعقل.
وجدت هذه القواعد بوجود الجماعات الإنسانية ذاتها، وقبل أن تكتسب صفة الدولة كما يعرفها القانون الدولي الحديث، فكان ذلك بداية لنشأة العلاقات الدولية أو القانون الدولي العام، على تسامح في التعبير، لأن القانون الدولي بمعناه الحديث لا يتجاوز عمره ثلاثة قرون منذ أواسط القرن السابع عشر الميلادي على إثر المنازعات الأوربية التي انتهت بإبرام معاهدة وستفاليا سنة (1648م) والتي تعتبر فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية والنقطة التي يبدأ عندها تاريخ القانون الدولي في وضعه الحالي، حيث نشأ ـ في الأصل ـ في أوربا ثم امتدَّ سلطانه خارجها إلى الدول التي اعتنقت المدنية الأوربية. ولذلك كان القانون الدولي ظاهرة حديثة ذات جذور بعيدة موغلة في القدم.
وقد كان الكاتبون الغربيون الذين يبدؤون البحث في القانون الدولي يتلمسون طريقهم وسط الإبهام والغموض اللَّذَيْن يرافقان معظم حقول البحث الجديدة. وكان الإبهام الذي اتصف به القانون الدولي في بداية نشأته ظاهرا بوجه خاص في النظريات المشوشة التي اعتمدت لتفسير طبيعته ومصادره. ثم بسبب انعدام القوة القهرية الكافية لتأمين احترام القواعد الدولية ومحدودية المخاطبين بأحكامها، تردّد بعض الكتاب حتى في إعطاء صفة القانون الإلزامي لمثل هذه القواعد.
ولذلك نجد ضرورة لدراسة التطور في العلاقات الدولية بين الأمم والشعوب في الحضارات القديمة ثمَ ما يليها من العصور حتى نصل إلى العصر الحديث، لأن ذلك ضروري لفهم قواعد العلاقات والتعرف على حوادثها التاريخية وكيفية وقوعها وأسبابها، لئلا نقبل قواعد على أنها حقة لا تقبل المناقشة، وهي في الواقع مخالفة له، وقابلة للرد ومن الواجب العمل على إلغائها واستبدالها.
العلاقات الدولية في العصور القديمة
يقصد بالعصور القديمة تلك الحقبة الزمنية الممتدة منذ اكتشاف الإنسانية الكتابة، المعتبر بداية التاريخ، إلى انقسام الإمبراطورية الرومانية في عام (395) أو إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام (476م).
ويرجع بعض الشراح من القانونيين في بحثهم التاريخي عن أصول العلاقات الدولية في العصور القديمة إلى الشعوب الآسيوية والإفريقية، حيث ازدهرت المدنيات الكبرى على التوالي في مصر وسوريا و قرطاجة وبلاد اليونان وروما، وكلها على البحر المتوسط، وقد كشفت آثار بابل وآشور ومصر والصين والهند عن قيام علاقات دولية ووجود عدد من القواعد التي كانت تحكم هذه العلاقات.
(أ) ففي مصر: أبرم رمسيس الثاني معاهدة صلح مع ملك الحيثيين في شمال سوريا في آسيا الصغرى، في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بقصد إقامة سلام دائم وتحالف وصداقة وتبادل تجاري. كما نصت المعاهدة على تسليم المذنبين على ألا توقع عليهم عقوبات معينة. وكان ذلك حينما أغار خيتا ملك الحيثيين على حدود مملكة فرعون في سورية، فهزمه رمسيس وطلب خيتا الصلح واقترح شروطا سلَّم فيها بكل ما طلبه رمسيس، وكتبه باللغة الهيروغليفية في نسختين على صحائف من الفضة وأرسلها مع الهدايا إلى فرعون مصر.
كما نجد في الوثائق التاريخية التي تحدثت عن المصريين والبابليين القدماء نصوصا لاتفاقات ومعاهدات عقدت مع جيرانه تتعلق بقضية مياه الأنهار المشتركة وحق كل دولة منها باستهلاك الماء وتسوية الخلافات حول الحدود وتبادل الأسرى.
(ب) وأما في مملكة الحيثيين، التي ظهرت قبل الميلاد بسبعة عشر قرنا: فقد أظهرت الكشوف الحديثة في بداية القرن العشرين وثائق غنية بالمعلومات عن هذه المملكة التي كان لها دور في أحداث آسيا الصغرى وما جاورها، في مرحلة من تاريخ الإنسانية هامة، وقد كشفت الوثائق ما كان عندهم من نشاط دبلوماسي وافر، وكانت معاهداتهم مع مصر الفرعونية ـ كما تقدم ـ نوعا هاما من أنواعه. وكان الحيثيون يعتبرون العالم فيما وراء حدود بلادهم ـ وباستثناء من تربطهم بهم معاهدات يقوم على احترامها السلم المتبادل ـ دار حرب، للأقوى فيها أن ينال ما تَقْدِرُ جيوشه على تناوله، غُنْما مباحا، لا يحميه دونها قانونٌ مّا.
(ج) وكانت الصين ترسل البعثات الدبلوماسية للدول المجاورة، واحتوى قانون «مانو» الذي انتشر في الهند سنة ألف قبل الميلاد، على قواعد تتعلق بالعلاقات الدولية من حرب ومعاهدات وسفارات.
(د) أما اليهود، فقد كانت علاقتهم مع الآخرين ـ كالعمالقة ـ علاقة عداء لم تعرف السلم بأي حال. وعند القتال لم يقتلوا المحاربين وحدهم، بل أعملوا القتل في الشيوخ والنساء والأطفال في عقر دورهم، ففي سفر صموئيل «قال صموئيل لشاول: فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرِّموا كل ماله، ولا تَعْفُ عنهم، بل اقتلهم رجلاً وامرأة، طفلا ورضيعا، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً».
وكانوا ينظرون ـ ولا يزالون ـ إلى الأمم الأخرى نظرتهم إلى شعوب وضيعة في سلَّم الإنسانية، وتضع نظمها وقوانينها على هذا الأساس، فيتم التفريق بين هؤلاء وأولئك أمام القانون وفي كثير من شؤون الاجتماع. فمن ذلك مثلا أن الإسرائيليين محرّم عليهم أن يقتل بعضهم بعضا وأن يخرج بعضهم بعضا من ديارهم، على حين أنه مباح للإسرائيليين، بل واجب عليهم أن يغزوا الشعوب الأخرى و«أن يضربوا رقاب جميع رجالها بحدّ السيف ولا يُبْقٌوا على أحد منهم، وأن يسترقُّوا جميع نسائها وأطفالها، ويستولوا على جميع ما فيها من مال وعقار ومتاع أو ينهبوه نهباً».
ومن ذلك أيضا: أنه لا يجوز للإسرائيلي أن يتعامل بالربا مع أخيه الإسرائيلي، ولا أن يأخذ منه رهنا بدينه، أما غير الإسرائيلي فيجوز له أن يتعامل معه بأشنع أنواع الربا الفاحش.
وأما الشعوب الأخرى التي لم يكن بينها وبين اليهود عداء، فقد أقاموا معهم علاقات دولية واحترموا المعاهدات التي كانوا يبرمونها مع الشعوب الصديقة، وذلك نزولا على حكم الضرورة، أو التزاما بحكم الدين قبل أن يحرّفوه، حيث عقد سليمان عليه السلام مع حيرام ملك صور الفينيقي عهد سلام وتجارة، كانا فيه نِدَّيْن متكافئين. وكان ملوك إسرائيل ويهودا يعاهدون ملوك آرام في دمشق وغيرهم من أمراء الشام ومصر وجزيرة العرب. وفي هذا أيضا نجد في كتابهم ما يدل على ذلك كما في سفر التثنية، حيث جاء فيه:
«حين تقترب من مدينة (غير مدن الأعداء التقليديين) لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء الأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا (مدن غير الأعداء التقليديين) التي ليس من هؤلاء الأمم هنا (الأعداء التقليديين) وأما من هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة مّا».
(هـ) وأما اليونان: فقد بلغت شأواً عظيما في الفلسفة والعلوم والفنون والآداب في ذلك الوقت، وكان لهذا أثره في تنظيم العلاقات بين المدن اليونانية التي تشكل الوحدات السياسية الدولية، كأثينا وإسبارطة وتيرا وبولوني، وكانت علاقة هذه المدن ببعضها ـ إلى ما قبل الغزو المقدوني ـ على قدر كبير من الاستقرار، تسيطر عليها فكرة المصلحة المشتركة والرغبة في بقاء العلاقات الودية بحكم ما بينها من صلات الجنس واللغة والدين. وبسبب التكامل الاقتصادي الذي طبع علاقاتها. لذلك كانت تتبادل الممثلين، وتعقد الاتفاقات فيما بينها، وتشترك في المؤتمرات، وتقبل التحكيم في المنازعات في وقت السلم. أما في وقت الحرب فكانت تراعي قواعد معينة في إعلان الحرب ومعاملة الأسرى ودفن الموتى، وحرمة أماكن العبادة والأماكن التي تقام بها الألعاب الرياضية.
وأما الوجه الثاني، وهو علاقات هذه المدن بغيرها من البلاد غير اليونانية، فكان أساسه نظرة الاستعلاء والتفوق على سائر الشعوب الأخرى، لأنهم يعتبرون أنفسهم عصرا ممتازا، من حقهم استعباد الشعوب الهمجية ـ بنظرهم ـ والسيطرة عليها وإخضاعها، لأنها شعوب بربرية، لذلك يؤكد أرسطو أن الطبيعة قد قضت أن يكون البرابرة عبيدا، حيث قال: إنما الطبيعة وهي ترمي إلى البقاء هي التي خلقت بعض الكائنات للإمرة وبعضها للطاعة.
وعلى الرغم من أن أفلاطون قد نصح مواطنيه أن يكونوا أكثر تساهلا في معاملاتهم المتبادلة، إلا أنه لم يستسغ قطّ فكرة أن غير الإغريق يستحقون أي نصيب مما يقترح من معاملات أكثر ليناً أو تسامحاً. ولذلك كانت علاقتهم بغير الإغريق علاقات حروب وعداء، لا تخضع لأي قواعد أخلاقية، ولا تراعى فيها أي اعتبارات إنسانية.
وأَنَّى للوطنية الضيقة، التي كانت سائدة في اليونان، أن تقبل فكرة عالمية دولية! ولذلك كانت «الفكرة العالمية التي نطق بها بعض حكمائهم كسقراط وانسكاغوراس شاذة لم تنل أنصارا وانتصارا في اليونان، فكان نظام أرسطو طاليس الأخلاقي مبنيا على التمييز بين اليوناني وغير اليوناني، وكان حب الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان، وأن أرسطو طاليس لم يكتف بحب وطنه والولاء له، بل قال: إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب بما يعاملون به البهائم، وقد راجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة في الأوساط اليونانية وتغلغلت في الأحشاء، حتى لما قال فيلسوف إنه لا يخص مواطنيه بمواساته بل سيكون برُّه عاما لجميع اليونانيين، استشرفه الناس عجبا ونظروا إليه شزرا».
(و) الرمان: وبعد سقوط الحضارة الإغريقية، قام ورثتها الرومان فبسطوا سيطرة الإمبراطورية الرومانية على كل ما جاورها من البلاد وأخضعوها لحكمهم، فكانت بمثابة الدول التابعة، ولم يختلف الرومان كثيرا عن الإغريق في نظرتهم إلى ما سواهم من الشعوب، وفي ادعائهم التفوق والسيطرة على العالم، «فإن روما قد غزت اليونان سياسيا ولكنها ما لبثت أن تلقَّت هي بدورها غزو اليونان فكريا، حيث نشروا قوانينهم وأقاموا معهدا من الأحبار الذين تولوا إدارة العلاقات مع البلدان الأجنبية عند إعلان الحرب أو السلم وعقد معاهدات الصداقة أو التحالف».
قانون الشعوب
وفي روما ظهرت مجموعة من القواعد القانونية ذات الطابع الديني، تحكم العلاقات التي تنشأ بين الرعايا الرومان ورعايا الشعوب التابعة لروما، متميزة عن قواعد القانون المدني المحلي. وكان ذلك القانون يسمى بـ«قانون الشعوب» أو «قانون الأمم» وكان يقوم على وضع هذا النظام والإشراف على تنفيذه هيئة مكونة من عشرين من رجال الدين، ولم يكن «قانون الأمم» قانونا دوليا. أي إنه لم يكن طائفة من الالتزامات والأحكام ارتضته الدول بوجه عام لتحديد علاقاتها بعضها ببعض... فقد كانت بعض العادات العامة تراعى ويتقيد بها في السلم والحرب، كالحماية المتبادلة للتجار والدبلوماسيين الدوليين ووقف القتال لدفن الموتى، والامتناع عن استخدام السهام المسمومة، وما إلى ذلك.
وكان شرَّاح القانون الروماني يصفون قانون الأمم هذا بأنه قانون عام يشمل الأمم جميعها. ولكن هذا لم يكن إلا من قبيل التفاخر الوطني الكاذب. فلم يكن هناك إلا قوانين محلية كُيِّفتْ بحيث تتفق مع السيادة الرومانية. وكان الغرض منها أن يستطاع بها حكم شعوب إيطاليا والولايات التابعة للدولة الرومانية من غير أن يعطى لأهلها حق المواطنية الرومانية وغيرها من الحقوق المنصوص عليها في القانون المدني.
أما رعايا الشعوب الأخرى، فلم يكونوا يتمتعون بأية حماية قانونية. بل كان يجوز استرقاقهم أو قتلهم، وكان كل أجنبي يدخل روما يصبح هو وماله ملكا لمن يقبض عليه من سكان روما الأصليين.
وعلى أي حال، فقد تميز هذا العصر بطابع العداء المتبادل بين الشعوب، وكان التعاون بينها في أضيق الحدود وبحرص شديد. ومن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك في مجتمع يرفع شعار القوة والعنصرية، ويعيش على أساس سيطرة الدولة القوية على باقي دول العالم.
والذي يلاحظ على فكرة القانون الدولي في كل تلك الحضارات والأمم القديمة: أنه لم يكن قانونا مشتركا بين كل الدول القديمة، ولا يعترف بالمساواة أمام القانون لمختلف الأجناس، ويعوزه الأساس الذي يكسبه وصف الإلزام، ومن ثم فإن الأسس الاجتماعية لقانون دولي كانت ناقصة تماما، على الرغم من ازدهار كثير من القواعد والتشريعات في النواحي المدنية ـ عند بعضهم ـ بشكل لم يسبق له مثيل في الأمم والحضارات السابقة. ولم تجد الأحكام الدولية أساسا مكينا يكسبها وصف الإلزام إلا في ظل الدين، فعندئذ اكتسبت من العقيدة الدينية قدسيتها ومن العقاب الإلهي الجزاء المترتب على مخالفتها.
ويمكن أن نوجز الكلام على هذه المرحلة: بأن القانون الدولي كان في التاريخ القديم يقوم على الاحتكاك المباشر بين الشعوب، ولم يصل إلى درجة قانون تنظيمي إقليمي فضلا عن أن يكون تنظيما دوليا. وتوجد شواهد تاريخية عديدة على أن كثيرا من الشعوب الشرقية كانت لهم بعض أنظمة تشابه من بعض الوجوه ما يوجد في القانون الدولي الحديث.
العلاقات الدولية في العصور الوسطى
يمكن تحديد العصور الوسطى تاريخيا بالقرون العشرة الواقعة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية عام (476م) إلى فتح المسلمين للقسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، على يد السلطان محمد الفاتح عام (1453م). ويذهب بعض المؤرخين إلى أنها تمتد إلى نهاية القرن الخامس عشر.
وفي هذه العصور ظهرت الممالك الإقطاعية في أوربا، ولم تكن المملكة وحدة تباشر السيادة الداخلية والخارجية. وكان السلطان للقوة والحق للأقوى.
ثم جدَّت مؤثرات كان لها دورها في العلاقات الدولية، ومن ذلك:
(أ) انتشار النصرانية في أوربا، حيث أصبحت الديانة الرسمية للدولة الرومانية، بعد أن اعتلى قسطنطين ـ الذي اعتنق النصرانية في آخر حياته ـ عرض الإمبراطورية سنة (306)، وكان من آثار ذلك قيام رابطة دينية بين مجموعة الدول الأوربية، أدت إلى نشوء ما يسمى بالأسرة الدولية المسيحية، يتساوى أفرادها في الحقوق ولهم المُثُل والمبادئ المشتركة نفسها، ويسلِّم الجميع للبابا الكاثوليكي بالسلطة الروحية العليا. وظهرت فكرة جديدة للسلام العالمي في صورة دينية تبسط بواسطة الكنيسة الكاثوليكية أجنحتها على العالم النصراني وتحاول وفق نظرياتها الدينية وأطماعها في السيادة العالمية أن تفرضه على رعاياها. وبدأت فكرة السلام بما يسمى «هدنة الرب» وتضافرت جهود البابا والإمبراطور للقضاء على العنف في العالم المسيحي، ونشر السلام بين الرعايا المؤمنين في سبيل السعادة الأبدية.
وقد ساعد على تضامن الجماعة النصرانية ظهور الدين الإسلامي وانتشاره حتى شمل مجموعة كبرى من الدول بات يخشى ازدياد نفوذها وانتزاعها لسيادة العالم من النصرانية. وكان من أثر ذلك قيام الحروب الصليبية وما تركته من آثار. وعلى الرغم من هذا، فإن النصرانية في أوربا كانت عقبة أمام نمو القانون الدولي بمعناه الحالي، لأمرين:
● أولهما: أن الرابطة التي قامت عليها العلاقات الدولية كان من شأنها أن تقصر هذه العلاقات على الدول النصرانية فيما بينها، وتقصي عن الجماعة الدولية سائر الدول غير النصرانية كالشعوب الإسلامية. فلا عجب إذن أن يصدر البابا نقولا الرابع (1292م) والبابا أوربانوس السادس (1389م) فتوى دينية تاريخية تقول: «إن الغدر إثم، ولكن الوفاء مع المسلمين أكبر إثما».
● ثانيهما: أن سلطة البابا الدينية وسيطرة الكنيسة على الشؤون الداخلية والخارجية تتنافى مع استقلال الدول ومساواتها، وهو أساس القانون الدولي العام التقليدي.
على أن تسلط الكنيسة ومحاولتها التدخل في كل شؤون الدول النصرانية أدى إلى قيام نوعين من الصراع في العصور الوسطى الأول: صراع مع الدولة لكي تتغلب على أمراء الإقطاع تحقيقا لوحدتها ومصلحتها، وتأكيدا لسيادتها، وكان لها الغلبة في ذلك.
والثاني: صراع الدول لكي تؤكد استقلالها في مواجهة الكنيسة وسلطان البابا، وقد انتهى هذا الصراع في حروب الثلاثين سنة التي انتهت بمعاهدة وستفاليا سنة (1648)، وبموجبها أعيد إنشاء العلاقات الدولية بين القوى الأوربية التي تقود أعنَّة الحياة السياسية لسنوات عديدة، ووضعت أسس جديدة لتحديد حقوقها تحديدا واضحا مرسوما، كما انتهى نظام القرون الوسطى وقواعد القانون العام القديمة وفكرة الطموح في إنشاء إمبراطورية عالمية واحدة، وحلّ محلها اتحاد الدول الجرمانية بعد شطر أوربا الوسطى إلى دول كاثوليكية وأخرى بروتستانتية، وبرزت فكرة توازن القوى في العلاقات السياسية الدولية في عالم ما بعد الإصلاح الديني.
(ب) ومن العوامل المؤثرة في العلاقات الدولية: اكتشاف القارة الأمريكية سنة (1492م) فقد أثار هذا الاكتشاف فيما بعد، مسائل دولية جديدة، في مقدمتها مسألتا الاستعمار وحرية البحار. ودفع ذلك فقهاء القانون الدولي إلى معالجة هذه المسائل، وظهرت فيها مؤلفات أهمها كتاب جروسيوس «البحر الحر» دعم فيه مبدأ حرية البحار وحرية التجارة مع البلاد المكتشفة حديثا، والذي كان له أعظم الأثر في توجيه القواعد الدولية في هذا الشأن إلى ما أصبحت عليه في الوقت الحاضر.
(ج) وما أن بدأ تيار الأفكار يسير نحو المبادئ الملائمة حتى صدمته حركة رجعية، إذْ ظهر كتاب ماكيافلي «الأمير» في سنة (1513م)، الذي يمثل هذه الحركة، ونشر به مذهبا يقوم على أنه «لا وجه لتطبيق علم الأخلاق في أمور الدولة»، وأباح للأمير أن يتظاهر بالرحمة والإنسانية والشفقة والتدين، ويفعل عكس ذلك متى دعت إليه المصلحة. وكان يدعو إلى تكوين دول أكبر من الإمارات الصغرى للوقوف في وجه الدين الإسلامي الجديد. وانتشرت تعاليم ماكيافلي ودانت لها أوربا، واتخذ الملوك والقواد العسكريون مبادئه شعارا لهم، واتجهت ميول السياسة نحو الفوضى الأخلاقية، وقامت على أساس الغش والخداع والوقيعة والدسائس. فكانت الحروب في غاية القسوة والغدر والجور، قتلٌ للكبار والنساء والصغار، وتخريب للبلاد، وتعذيب للأسرى ثم إعدامهم بعد ذلك.
مات ماكيافلي سنة (1527)، لكن مذهبه بقي شائعا من بعده زهاء قرن من الزمان بين رجال دول اوربا الذين تحرروا من قيود الأخلاق الفاضلة، فرحبوا بالفلسفة السياسية الحديثة المكيافيلية، وخلاصتها: «أن الأنانية والمنفعة الذاتية شعار الدولة السياسي». ولا يزال مذهب ماكيافلي منتشرا في معظم دول العالم.
إن كل ما وصفه ماكيافيلي في كتابه «الأمير» كان طابع ذلك العهد وما يتبعه السادة، بل لم تك ثمة أساليب وردت في هذا الكتاب لم يرتكبها الحكام منذ مدة طويلة ولم يتخذها كثير من رجال السياسة ديدنهم دائما قبل ظهور «ماكيافيلي» بلا حاجة إلى الاسترشاد بكتاب «الأمير». (د) وما كان لتلك الأفكار والمبادئ أن تنتشر دون أن تثير الشكوى وتدعو إلى شيء من الإصلاح والعلاج الشافي من تلك الأدواء، فقام مفكرون يعارضون تعاليم ماكيافيلي وأتباعه قائلين: إن العلاقات الدولية يحكمها في حالتي الحرب والسلم قانون أساسه العرف والعادة والحقوق الطبيعية للإنسان وللدول. ومن هؤلاء راهب اسباني اسمه «فيتوريا» وآخر اسمه «سوارس». وقام في إيطاليا محام هولندي اسمه «جينتيليس» وغيرهم من المفكرين الذين مهدوا لكتابات المحامي الهولندي «جروسيوس» الذي وضع كتابه عن «قانون الشعوب» وفيه تنظيم لكتابات أسلافه وتأصيل لها على أساس من التاريخ والمنطق، مستفيدا من نظريات كانت موضع احترام وقبول من المفكرين في ذلك العصر. ولذلك ينعت كُتَّاب الغرب جروسيوس بأنه «أبو القانون الدولي العام». وبهذه الحلقة انتهت مرحلة العصور الوسطى في القانون الدولي الأوربي، وبدأت مرحلة علمية جديدة هي العصر الحديث للعلاقات الدولية.
ومن الجدير بالذكر هنا أننا لم نخصص في هذا المبحث فقرة للعلاقات الدولية في الإسلام ـ وقد قامت دولته في هذا العصر ـ لأن ذلك يحتاج إلى مبحث مستقل قائم
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma