المحاضرة الثالثة : الحماية الإنسانية للأشخاص المدنيين في المنازعات المسلحة
وضع القانون الدولي الإنساني قواعد لحماية الأشخاص أثناء المنازعات المسلحة وتهدف هذه القواعد إلى المحافظة على العنصر البشري على الرغم من العداء بين الطرفين المتنازعين . وذلك أن استخدام القوة ، وان كانت قد تؤدي إلى تدمير الطرف الآخر وقهره . إلا إن استخدامها يجب أن يتحدد في إجبار الطرف الآخر على الاعتراف بحق أو التنازل عنه ، وليس الانتقام والتشفي ، وفي جميع الأحوال يجب ألا يكون هدف استخدام القوة المسلحة إبادة العنصر البشري ،وإلا فأنها تخرج عن الإنسانية وتصبح هدفاً للانتقام والإبادة ، وهو ما يحرمه القانون الدولي الإنساني بصورة مطلقة ويعاقب عليه . وقد وضعت الشريعة الإسلامية احكاماً خاصة لحماية الأشخاص وحرم القانون الدولي الإنساني التعرض للمدنيين ولأصناف معينة من العسكريين لأسباب سياسية . إن تحديد الأشخاص الذين تتوجه إليهم الحماية في المنازعات المسلحة يتطلب التمييز بين الأشخاص المقاتلين الذين يجوز قتالهم وغير المقاتلين الذين لا يجوز قتالهم ، أي التمييز بين المدنيين والعسكريين . وينبغي التمييز بين العسكريين الذين يجوز قتالهم والعسكريين الذين لا يجوز قتالهم لأسباب إنسانية . وبناء على ذلك سوف نتناول في الفرعين الآتيين :
الفرع الأول ــ الحماية الإنسانية للأشخاص في ضوء الشريعة الإسلامية .
الفرع الثاني ــ الحماية الإنسانية للأشخاص في ضوء القانون الدولـــــي .
الحماية الإنسانية للأشخاص في ضوء الشريعة الإسلامية
لم يعتمد الإسلام الحرب هدفاً لنشر الدين ، بل أن الحرب في الإسلام وسيلة للدفاع عن المسلمين وحماية الإسلام . ولهذا فأن الحرب في الإسلام لا يلجأ اليها إلا عند الضرورة وإذا ما تم اللجوء إلى الحرب فأنها تبقى محكومة بدفع الضرر وقائمة على الإنسانية والفضيلة ، ومحدودة بالقدر اللازم لتحقيق الغاية منها ، دون المغالاة وعدم استخدامها وسيلة للانتقام أو التشفي . وطبقاً لذلك فأن استخدام القوة العسكرية في الشريعة الإسلامية يتحدد بنطاق الهداية دون سواها . وقتل الأعداء غير مقصود . ولو أمكن الهداية إلى تحقيق الهدف بغير القتال المسلح لكان أولى من الجهاد . لأن تحقيق الهدف بغير إراقة الدماء يجنب المسلمين كوارث الحرب ، ويرفع عن الأعداء الحنق والكراهية ، ويمنعهم من التربص للمسلمين والغدر بهم عندما يجدون الفرصة مؤاتية . وطبقاً لمفاهيم الشرع الإسلامي ، فأن الغاية من استخدام القوة المسلحة تقوم على أساس حماية الإسلام ودفع الشر عنه . وهذا ما يجعل المسلم مدافعاً عن عقيدة وليس خصماً خاصاً ضد الطرف الآخر . وقد تبلورت القواعد الإنسانية في الشريعة الإسلامية منذ ظهور الإسلام وظهرت الحاجة إلى وجود جيش نظامي يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن الإسلام وحمايته وهو أمر استوجب فرض الدفاع عن السلام وحمايته ، على كل مسلم قادر على حمل السلاح وهذا يعني إن الشريعة الإسلامية استثنت من حمل السلاح كلاً من النساء والعجزة والصبيان والمجانين والضعفاء ، ومن هم تحت حماية المسلمين . وحملت المسؤولية في الدفاع عن الإسلام على من هو قادر على حمل السلاح . إن البحث في القواعد الإنسانية في المنازعات المسلحة التي حددها الإسلام تتطلب تحديد من هم الأشخاص الذين يجوز أن تتوجه الأعمال القتالية ضدهم . والأشخاص الذين لا يجوز قتالهم لأسباب إنسانية ، وان كانوا من الأعداء اساساً عن نطاق القتال المسلح وهو ما تتضمنه المطالب التالية :
أولاَ ــ الأشخاص الذين يجوز قتالهم .
ثانياَ ــ بعض الأصناف من المقاتلين الذين لا يجوز قتالهم .
ثالثاَ ــ المدنيون الذين لا يجوز قتالهم .
أولاَ / الأشخاص الذين يجوز قتالهم
نظم العرف القبلي قبل الإسلام قواعد معينة للقتال ووضع شروطاً محددة في كيفية بدأ القتال وأدارته وإنهائه والآثار المترتبة عليه ، فكان القتال المسلح بين القبائل العربية وسيلة من وسائل تسوية المنازعات بينهم . وقد عرف العرب تنظيمات عسكرية معينة تنضوي تحتها أصناف معينة من المقاتلين ، وعرفوا أساليب الحرب . وعندما جاء الإسلام ، فانه وضع قواعد إنسانية في تحديد من هو الذي يحمل السلاح للدفاع عن الدين ، ومن تتوجه ضده الأعمال الحربية . فمنع النساء والعجزة والصبيان والضعفاء والمرضى من المسلمين من حمل السلاح واستثناهم من صفة المقاتلين . أما بالنسبة إلى من يتوجه ضدهم القتال من الأعداء ، فان الإسلام وضع قاعدة في قتال الأعداء ، فليس كل عدو يجوز قتاله ، لأن الإسلام دين الفضيلة والرحمة والأمر بالمعروف ، وان الهدف من القتال مقيد بدفع الشر عن الإسلام والذود عنه ، ولهذا فان من يتوجه ضدهم القتال يمكن أن نحددهم بما يأتي :
أ ــ المشركون :
أوجب الدين الإسلامي قتال المشركين من الأعداء . وقد جاءت العديد من الآيات والأحاديث الشريفة تحث المسلمين على قتال المشركين من الأعداء ، بقوله تعالى (( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ )) ، وقوله تعالى (( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً )) . وجاء بالحديث الشريف ( أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله ) . إن فتوحات الإسلام للعالم كانت بما فيه من سهولة وبساطة ومبادئ سامية ، وانتشر بقوة ذاتية ، والمسلمون حاربوا غيرهم لا لبث الشريعة الإسلامية بالقسر والقوة ، ولكن ليحققوا أصول الحرية ويوطدوا أركانها ، ولينشروا السلام العام وليقيموا حياة جديدة مؤسسة على الحرية الخالصة في العقائد والأفعال . وان الدعوة للحق والخير ركن أصيل من أركان الإسلام ، والنشاط في سبيل نشر هذه الدعوة بدون شك أمر مطلوب ولا نزاع فيه ، ولم يكن الإسلام متعطشاً للدماء ولم يكن دين سيف . فإذا امتنع المشركون عن قتال المسلمين ، ودخلوا الإسلام ، فأنهم يأمنون من القتال ، وتصان أرواحهم وأموالهم .
ب ــ أهل الردة :
إن حالة قتال أهل الردة تشبه حالة المشركين . لأن أهل الردة دخلوا الإسلام ثم ارتدوا عنه . وبارتدادهم عادوا مشركين ، ومن ثم وجب قتالهم . وقد أضاف فقهاء الشريعة الإسلامية حالة الزنديق إلى حالة المرتد وأوجبوا قتالهم ، والزنديق هو من يتظاهر بالإسلام ويسر الكفر في داخله . غير أن حالة مقاتلة الزنديق ليست أمراً قائماً في جميع الأحوال ، فإذا ما كان الزنديق مراهقاً فلا يجوز قتاله ابتداءً ، بل لابد من نصحه وارشاده واصلاحه . حتى يعي حكم الشرع ويحكم تصرفاته واعماله بموجبه . والارتداد عن الإسلام طوعاً يتحقق سواء ولد المرتد على فطرة الإسلام ثم ارتد عنه ، أو اسلم عن كفر ثم ارتد عن الإسلام . والارتداد عن الإسلام إلى دين آخر كاليهودية والنصرانية ، أو إلى الزندقة والوثنية يجب قتاله ، وقبل قتاله يجب أن يعرض عليه الإسلام فان لم يظهر التوبة ، فيجب قتاله .
جـ ــ أهل البغي :
يقصد بأهل البغي ، المسلمين الذين اعتدوا على غيرهم من المسلمين ولم يقبلوا الصلح ، فيجوز قتالهم حتى يقبلوا الصلح . لقوله تعالى (( وانْ طائِفَتان مِن المؤمنيْن اقْتتلوا فاصلِحوا بينهما ، فانْ بغت احداهُما على الأخْرى فقاتلُوا التي تَبْغي حتى تفيء إلى أمر الله فانْ فاءت فاصلحوا بينَهُما وأقْسِطُوا إن الله يُحب المُقسطين )) . والهدف في قتال أهل البغي هو من أجل الإسلام ودرأ الفتنة بين المسلمين ، فإذا ما نشب قتال بين فئتين من المسلمين فان على المسلمين الآخرين ألا يقفوا موقف المتفرج ليحتدم سفك الدماء بين المقاتلين ، بل على جميع المسلمين الآخرين أن يتدخلوا من أجل فرض الصلح أولاً ، وإذا ما رفض أحد الأطراف الصلح وجب على جميع المسلمين مقاتلة المتعنت حتى يوقف القتال . إن الهدف من مقاتلة أهل البغي ، هو منع القتال بين المسلمين والرجوع إلى حكم الله لتسوية المنازعات بينهم ذلك أن الحرب بين الفئات الإسلامية لا تتفق مع أحكام الإسلام التي تقضي بضرورة وحدة الصف الإسلامي من أجل مواجهة أعداء الدين . وانه يفترض وجود حالة سلام دائم بين المسلمين ، وعندما منع الإسلام القتال بين المسلمين إلا من أجل فرض الصلح بينهم ، فانه شرع قاعدة عملية لصيانة المجتمع الإسلامي من الخصام والتفكك الذي غالباً ما يكون سببه النزوات والاندفاعات فالإسلام يدعو إلى التثبت والاستيقان وعدم العجلة والاندفاع ، وان القتال بين المسلمين هو الاستثناء ومحدد بالغاية التي تفرض السلام .
د ــ المعتدي :
أقر الإسلام الحرب الدفاعية المنظمة لقوله تعالى : ((ٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )) . وقوله تعالى : ((وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً )) . وعلى وفق النظرية الإسلامية يعرَّف العدوان بأنه الاعتداء المباشر أو غير المباشر على غير المحاربين المعتدين أي تجاوز ردع الأطراف المحاربة والمشتركة بشكل فعال في العمليات الحربية إلى غيرهم من الفئات التي لا تشكل خطراً أو تهديداً للدعوة الإسلامية كالنساء والأطفال والشيوخ ، فالقتال جائز للدفاع عن النفس ورد العدوان .
هـ ــ الظالم :
من مبادئ الإسلام مكافحة الظلم والفساد ، وعد الاعتداء على أحد المسلمين بمثابة اعتداء عليهم جميعاً ، لقوله تعالى : ((ُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً )) . ولهذا فقد أجاز الشرع الإسلامي قتل من يظلم المسلمين ويعتدي عليهم . فالإسلام أداة عدل يتناقض وأعمال الظلم ، والجهاد يهدف إلى منع الظلم ونصرة المستضعفين . ويشمل الظالم كل من يسلب حقوق الآخرين ولا يحقق العدل بحكم موقعه .
و ــ قاطع الطريق :
عرّف الفقهاء المسلمين جريمة قطع الطريق ، بأنها تلك الجريمة التي تشكل خروجاً على المارة لأخذ المال مجاهرة وبقوة السلاح بصورة تمنع الناس من المرور . ويقطع الطريق سواء كان قاطع الطريق فرداً أو جماعة من المسلمين أو غير المسلمين . وقد أوجب الشرع الإسلامي محاربة هؤلاء لقوله تعالى ((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ)) . ويجوز قتال قطّاع الطرق مقبلين ومدبرين وقتل من قتل منهم . ويؤخذون بما استهلكوا من دم ومال في الحرب ، وحبس من أسر منهم فضلاً على ما اجتبوه من خراج وأخذوه من صدقات غصباً ونهباً . والسبب في تشدد الشريعة الإسلامية في معالجة قطاع الطريق ، يعود إلى أن هذه الجريمة تؤدي إلى منع الناس من التنقل كما إنها تخلق الفزع والرعب عندهم ، وتؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار وتعرض حياة الناس واموالهم للخطر . وفي الحالات السابقة التي أجاز فيها الشرع الإسلامي القتال ، فان هذه الإجازة محددة ومقدرة بالمصلحة وبعيدة عن استخدام الوحشية ضد من توجه ضده الأعمال المسلحة . وقد جاء بالحديث الشريف ( أغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا . . . ) . لأن غاية القتال هي ضمانة ألا يفتن المسلمون عن دينهم وألا يصرفوا عنه بالقوة . فلا يجوز ارتكاب الإبادة الجماعية والتدمير والحرق والبطش والاعتقال الجماعي . وإذا ما أقر الشرع الإسلامي الجهاد ، فان ذلك لا يعني أن يكون الجهاد حروباً ناشطة ، وإذا اتخذت هذا الوصف ، فانه يعني أن تكون حرباً إنسانية تبررها ضرورة قطعية بعيدة عن الانتقام والتشفي . ذلك إن الانتقام لا يولد إلا الانتقام ، وان هدف الإسلام غاية إنسانية وهي تطهير النفوس من عوالق الظلم والتخلف . وهذا لا يمكن أن يتحقق ما لم تكون الأعمال محكومة بالإنسانية والترفع والفضيلة .
السبت ديسمبر 27, 2014 5:08 pm من طرف abumohamed
» شركة التوصية بالاسهم -_-
الجمعة فبراير 21, 2014 5:39 pm من طرف Admin
» مكتبة دروس
الإثنين يناير 13, 2014 9:40 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب مصادر الإلتزام لـ علي علي سليمان !
الخميس ديسمبر 19, 2013 8:52 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب الوسيط في شرح القانون المدني لعبد الرزاق السنهوري
السبت نوفمبر 30, 2013 3:58 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري للدكتورة نادية فضيل
السبت نوفمبر 30, 2013 3:51 pm من طرف Admin
» تحميل كتاب القانون التجاري الجزائري للأستاذ عبد القادر البقيرات
السبت نوفمبر 30, 2013 3:46 pm من طرف Admin
» بحث حول المقاولة التجارية
السبت نوفمبر 23, 2013 8:46 pm من طرف happy girl
» كتاب الدكتور سعيد بوشعير مدخل الى العلوم القانونية ادخل وحمله
الأربعاء نوفمبر 06, 2013 10:49 am من طرف As Pique
» الدفاتر التجارية:
الجمعة أكتوبر 04, 2013 7:37 pm من طرف salouma